أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال
صدر هذه الآية تنبيه على قدرة الله تعالى وإقامة الحجة على الكفرة به، ثم لما فرغ من ذكر ذلك جعله مثالا للحق والباطل، والإيمان والكفر والشك في الشرع واليقين به.
"ماء": يريد به المطر، و "الأودية": ما بين الجبال من الانخفاض والخنادق، وقوله سبحانه: "بقدرها" يحتمل أن يريد بما قدر لها من الماء ويحتمل أن يريد بقدر ما تحمله على قدر صغرها وكبرها وقرأ جمهور الناس "بقدرها" بفتح الدال، وقرأ بسكونها. الأشهب العقيلي
و "الزبد": ما يحمله السيل من غثاء ونحوه وما يرمي به ضفتيه من الحباب الملتبك به، ومنه قول حسان بن ثابت:
والبحر حين تهب الريح شامية ... فباطل ويرمي العبر بالزبد
و "الرابي": المنتفخ الذي قد ربا، ومنه الربوة.
وقوله تعالى: "ومما" خبر ابتداء، والابتداء قوله: "زبد" و"مثله" نعت لـ "الزبد"، والمعنى: ومن الأشياء التي توقدون عليها ابتغاء الحلي -وهي الذهب والفضة- ابتغاء الاستمتاع بما في المرافق -وهي الحديد والرصاص والنحاس ونحوها من الأشياء التي توقدون عليها، فأخبر تعالى أن من هذه أيضا -إذا أحمي عليها- يكون زبد مماثل للزبد الذي يحمله السيل، ثم ضرب تعالى ذلك مثالا للحق والباطل، أي أن الماء الذي [ ص: 197 ] تشربه الأرض فيقع النفع به هو كالحق، والزبد الذي يجفو وينفش ويذهب هو كالباطل، وكذلك ما يخلص من الذهب والفضة والحديد ونحوها هو كالحق، وما يذهب في الدخان هو كالباطل. وقوله: في النار متعلق بمحذوف تقديره: كائنا كذا، قال وغيره: ومنعوا أن يتعلق بقوله: "يوقدون" لأنهم زعموا أنه ليس يوقد على شيء إلا وهو في النار، وتعليق حرف الجر بـ "يوقدون" يتضمن تخصيص حال من حال أخرى. وذهب مكي إلى تعلقه بـ "يوقدون" ، وقال: قد يوقد على شيء وليس في النار كقوله تعالى: أبو علي الفارسي فأوقد لي يا هامان على الطين فذلك البناء الذي أمر به يوقد عليه وليس في النار لكن يصيبه لهبها. وقوله: "جفاء" مصدر من قولك: "جفأت القدر" إذا غلت حتى خرج زبدها وذهب. وقرأ رؤبة: "جفالا" من قولهم: "جفلت الريح السحاب" إذا حملته وفرقته، قال : لا تعتبر قراءة الأعراب في القرآن. أبو حاتم
وقوله: ما ينفع الناس يريد الخالص من الماء ومن تلك الأحجار، وقرأ ، ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر في رواية وعاصم ، أبي بكر ، وأبو جعفر ، والأعرج وشيبة ، : "توقدون" بالتاء، أي أنتم أيها الموقدون، وهي صفة لجميع أنواع الناس. وقرأ والحسن ، حمزة ، والكسائي وحفص عن ، عاصم وابن محيصن ، ، ومجاهد وطلحة، وأهل ويحيى، الكوفة "يوقدون" بالياء، على الإشارة إلى الناس. و"جفاء" مصدر في موضع الحال، وروي عن أنه قال: قوله تعالى: ابن عباس من السماء يريد به الشرع والدين. وقوله: فسالت أودية يريد به القلوب، أي: أخذ النبيل بحظه والبليد بحظه.
[ ص: 198 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا قول لا يصح والله أعلم عن لأنه ينحو إلى أقوال أصحاب الرموز، وقد تمسك به ابن عباس وأهل ذلك الطريق، ولا وجه لإخراج اللفظ عن مفهوم كلام الغزالي العرب بغير علة تدعو إلى ذلك، والله الموفق للصواب برحمته، وإن صح هذا القول عن فإنما قصد أن قوله تعالى: ابن عباس كذلك يضرب الله الحق والباطل معناه: الحق الذي يتقرر في القلوب، والباطل: الذي يعتريها.