وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد [ ص: 232 ] يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ
قوله تعالى: أو لتعودن في ملتنا ، قالت فرقة: "أو" هنا بمعنى: "إلا أن"، كما هي في قول امرئ القيس:
فقلت له لا تبك عيناك إنما ... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
وتحتمل "أو" في الآية أن تكون على بابها لوقوع أحد الأمرين، لأنهم حملوا رسلهم على أحد الوجهين، ولا يحتمل بيت امرئ القيس ذلك لأنه لم يحاول أن يموت فيعذر، فتخلصت بمعنى "إلا أن" ولذلك نصب الفعل بعدها. وقالت فرقة: هي بمعنى "حتى" في الآية، وهذا ضعيف، وإنما يترتب ذلك في قوله: "لألزمنك أو تقضيني حقي"، وفي قوله: "لا يقوم زيد أو يقوم عمرو"، وفي هذه المثل كلها يحسن تقدير "إلا أن". والعودة أبدا إنما هي إلى حالة قد كانت، والرسل ما كانوا قط في ملة الكفر، فإنما المعنى: أو لتعودن في سكوتكم عنا إغفالا، وذلك عند الكفار كون في ملتهم، وخصص تعالى الظالمين من الذين كفروا إذ جائز أن يؤمن من الكفرة الذين قالوا المقالة ناس، فإنما توعد بالإهلاك من خلص للظلم.
وقوله: "ولنسكننكم" الخطاب للحاضرين والمراد هم وذريتهم، ويترتب هذا [ ص: 233 ] المعنى في قوله: "ويؤخركم إلى أجل مسمى"، أي: يؤخركم وأعقابكم، وقرأ أبو حيوة : "ليهلكن" و "ليسكننكم" بالياء فيهما، وقوله: "مقامي" يحتمل أن يريد به المصدر من القيام على الشيء بالقدرة، ويحتمل أن يريد به الظرف لقيام العبد بين يديه في الآخرة، فإضافته إذا كان مصدرا إضافة المصدر إلى الفاعل، وإضافته إذا كان ظرفا إضافة الظرف إلى حاضره، أي: مقام حسابي، فجائز قوله: "مقامي"، وجائز لو قال: "مقامه"، وجائز لو قال: "مقام العرض والحساب"، وهذا كما تقول: "دار الحاكم، ودار الحكم، ودار المحكوم عليه"، قال : "مقامي" مجاز، حيث أقيمه بين يدي للحساب. أبو عبيدة
و "الاستفتاح": طلب الحكم، والفتاح: الحاكم، والمعنى: إن الرسل استفتحوا، أي: سألوا الله تعالى إنفاذ الحكم بنصرهم وتعذيب الكفرة، وقيل: بل استفتح الكفار، على نحو قول قريش : عجل لنا قطنا ، وعلى نحو قول أبي جهل في بدر: "اللهم أقطعنا للرحم، وأتانا بما لا يعرف فأحنه الغداة" هذا قول أبي دريد، وقرأت فرقة: "واستفتحوا" بكسر التاء على معنى الأمر للرسل، قرأها ، ابن عباس ، ومجاهد وابن محيصن . و"خاب" معناه: خسر ولم ينجح، و "الجبار": المتعظم في نفسه الذي لا يرى لأحد عليه حقا، وقيل: معناه: يجبر الناس على ما يكرهون.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا هو المفهوم من اللفظ. وعبر وغيره عن "الجبار" بأنه الذي يأبى أن يقول: "لا إله إلا الله"، و "العنيد": الذي يعاند ولا ينقاد. قتادة
وقوله تعالى: من ورائه ، ذكر وغيره من المفسرين أن معناه: "من أمامه"، وعلى ذلك حملوا قوله تعالى: الطبري وكان وراءهم ملك ، وأنشد : الطبري
[ ص: 234 ] أتوعدوني وراء بني رياح ... كذبت لتقصرن يداك دوني
وليس الأمر كما ذكر، و "الوراء" ها هنا على بابه، أي: هو ما يأتي بعد في الزمان، وذلك أن التقدير في هذه الحوادث بالأمام والوراء إنما هو بالزمان، وما تقدم فهو أمام، وهو بين اليد، كما تقول في التوراة والإنجيل: إنهما بين يدي القرآن، والقرآن وراءهما على هذا، وما تأخر في الزمان هو وراء المتقدم، ومنه قولهم لولد الولد: الوراء، وهذا الجبار العنيد وجوده وكفره وأعماله في وقت ما، ثم بعد ذلك في الزمان يأتيه أمر جهنم، قال وتلخيص هذا أن يشبه الزمان بطريق تأتي الحوادث من جهته الواحدة متتابعة، فما تقدم فهو أمام، وما تأخر فهو وراء المتقدم، وكذلك قوله: وكان وراءهم أي غصبه وتغلبه يأتي بعد حذرهم وتحفظهم.
وقوله تعالى: ويسقى من ماء ، وليس بماء، لكن لما كان بدل الماء في العرف عندنا. ثم نعته بـ "صديد" ، كما تقول: هذا خاتم حديد. و "الصديد": القيح والدم، وهو ما يسيل من أجساد أهل النار، قاله مجاهد . والضحاك
[ ص: 235 ] وقوله: يتجرعه ولا يكاد يسيغه عبارة عن صعوبة أمره عليهم، ويروى أن الكافر يؤتى بالشربة من شراب أهل النار فيتكرهها، فإذا أدنيت منه شوت وجهه وسقطت فيها فروة رأسه، فإذا شربها قطعت أمعاءه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا الخبر مفرق في آيات من كتاب الله.
وقوله: ويأتيه الموت من كل مكان أي من كل شعرة في بدنه، قاله إبراهيم التيمي، وقيل: من جميع جهاته الست، وقوله: وما هو بميت ، أي: لا يراح بالموت. وباقي الآية كأولها، ووصف العذاب بالغليظ مبالغة، وقال العذاب الغليظ: حبس الأنفاس في الأجساد، وقيل: إن الضمير في "ورائه" هنا هو للعذاب المتقدم. الفضيل بن عياض: