وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من [ ص: 274 ] الصادقين ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون
الضمير في "قالوا" يراد به كفار قريش ، ويروى أن القائلين كانوا: عبد الله بن أبي أمية، والنضر بن الحارث وأشباههما، وقرأ : "يا أيها الذي ألقي إليه الذكر". وقولهم: الأعمش يا أيها الذي نزل عليه الذكر كلام على جهة الاستخفاف، أي بزعمك ودعواك، وهذه المخاطبة كما تقول لرجل جاهل أراد أن يتكلم فيما لا يحسن: يا أيها العالم لا تحسن تتوضأ.
و"لوما" بمعنى "لولا" فتكون تحضيضا كما في هذه الآية، وقد تكون دالة على امتناع شيء لوجوب غيره، كما قال ابن مقبل:
لولا الحياء ولوما الدين عبتكما ... ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري
وقرأ ، ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : "ما تنزل الملائكة" بفتح التاء والرفع، وقرأ وابن عامر في رواية عاصم إلا أنه ضم التاء، وهي قراءة أبي بكر وقرأ يحيى بن وثاب، ، حمزة ، والكسائي وحفص : "ننزل" بنون العظمة "الملائكة" نصبا، وهي قراءة طلحة بن مصرف.
وقوله: إلا بالحق ، قال : المعنى: بالرسالة والعذاب. مجاهد
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والظاهر أن معناه: كما يجب ويحق من الوحي والمنافع التي أراها الله لعباده، لا على اقتراح كافر، ولا باختيار معترض. ثم ذكر عادة الله في الأمم من أنه لم يأتهم بآية اقتراح إلا ومعها العذاب في أثرها إن لم يؤمنوا، وكأن الكلام: ما ننزل الملائكة إلا بحق وواجب لا باقتراحكم، وأيضا فلو نزلت لم ينظروا بعد ذلك بالعذاب، أي: لم [ ص: 275 ] يؤخروا، والنظرة: التأخير، والمعنى: فهذا لا يكون إذ كان في علم الله أن منهم من يؤمن، أو يلد من يؤمن.
وقوله تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر رد على المستخفين في قولهم: يا أيها الذي نزل عليه الذكر ، وهذا كما يقول لك رجل على جهة الاستخفاف: "يا عظيم القدر"، فتقول له على جهة الرد والنجه: نعم أنا عظيم القدر، ثم تأخذ في قولك، فتأمله. وقوله: وإنا له لحافظون ، قالت فرقة: الضمير في "له" عائد على محمد عليه الصلاة والسلام، أي: نحفظه من أذاكم، ونحوطه من مكركم وغيره، ذكر هذا القول ولم ينسبه، وفي ضمن هذه العدة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أظهر الله به الشرع وحان أجله، وقالت فرقة -وهي الأكثر-: الضمير في "له" عائد على القرآن، وقاله الطبري ، مجاهد ، والمعنى: لحافظون من أن يبدل أو يغير كما جرى في سائر الكتب المنزلة، وفي آخر ورقة من وقتادة عن البخاري رضي الله عنهما أن التبديل فيها إنما كان في التأويل، وأما في اللفظ فلا، وظاهر آيات القرآن أنهم بدلوا اللفظ، ووضع اليد على آية الرجم هو في معنى تبديل الألفاظ. وقيل: لحافظون باختزانه في صدور الرجال، والمعنى متقارب، وقال ابن عباس : هذه الآية نحو قوله تعالى: قتادة لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
وقوله تعالى: ولقد أرسلنا من قبلك الآية، تسلية للنبي عليه الصلاة والسلام، وعرض أسوة، أي: لا يضيق صدرك يا محمد بما يفعله قومك من الاستهزاء في قولهم: يا أيها الذي نزل عليه الذكر وغير ذلك، فقد تقدم منا إرسال الرسل في شيع [ ص: 276 ] الأولين، وكانت تلك سيرتهم في الاستهزاء بالرسل، و"الشيع" جمع شيعة، وهي الفرقة التابعة لرأس، إما مذهب أو رجل أو نحوه، وهي مأخوذة من قولهم: شيعت النار إذا استدمت وقدها بحطب أو غيره، فكأن الشيعة تصل أمر رأسها وتظهره وتمده بمعونة. وقوله: أرسلنا من قبلك تقتضي "رسلا"، ثم اختصر ذكرهم لدلالة ظاهر من القول على ذلك.