وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون والجان خلقناه من قبل من نار السموم
يقال: لقحت الناقة والشجرة فهي لاقحة إذا حملت، والرياح تلقح الشجر والسحاب، فالوجه في الريح أنها ملقحة لا لاقحة، وتتجه صفة الرياح بـ [لواقح] على أربعة أوجه: أولها وأولاها أن جعلها لاقحة حقيقة، وذلك أن الريح منها ما فيه عذاب أو ضر أو نار، ومنها ما فيه رحمة أو مطر أو نصر أو غير ذلك، فإذا بها تحمل ما حملتها القدرة، أو ما علقته من الهواء أو التراب أو الماء الذي مرت عليه، فهي لاقحة بهذا الوجه، وإن كانت أيضا تلقح غيرها وتصير إليه نفعها، والعرب تسمي الجنوب الحامل واللاقحة، وتسمي الشمال الحائل والعقيم ومحوة لأنها تمحو السحاب، روى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: أبو هريرة "الريح الجنوب من الجنة، وهي اللواقح التي ذكر الله، وفيها منافع للناس"، ومن هذا قول الطرماح:
قلق لأفنان الريا ... ح للاقح منها وحائل
وقول أبي وجزة:
.......................
من نسل جوابة الآفاق..
[ ص: 283 ] فجعلها حاملا بنسل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ويخرج هذا على أنها ملقحة فلا حجة فيه.
والثاني أن يكون وصفها بـ [لواقح] من باب قولهم: "ليل نائم"، أي: فيه نوم ومعه، "ويوم عاصف"، ونحوه، فهذا على طريق المجاز. والثالث أن توصف الرياح بـ [لواقح] على جهة النسب، أي: ذات لقح، كقول النابغة:
كليني لهم يا أميمة ناصب
أي: ذي نصب. والرابع أن يكون [لواقح] جمع "ملقحة" على حذف زوائده، فكأنه "لقحة" فجمعها كما تجمع "لاقحة"، ومثله قول الشاعر :
لبيك يزيد ضارع لخصومة ... وأشعث ممن طوحته الطوائح
وإنما طوحته المطاوح، وعلى هذا النحو فسرها في قوله: "لواقح ملاقح"، وكذلك العبارة عنها في كتاب أبو عبيدة "لواقح ملاقح ملقحة". البخاري:
[ ص: 284 ] وقرأ الجمهور: "الرياح" بالجمع، وقرأ الكوفيون: ، حمزة ، وطلحة بن مصرف ، والأعمش : "الريح" بالإفراد، وهي للجنس فهي في معنى الجمع، ومثلها ويحيى بن وثاب بقولهم: "قميص أخلاق، وأرض أغفال". الطبري
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا كله من حيث هو أجزاء كثيرة تجمع صفته، فكذلك "ريح لواقح" لأنها متفرقة الهبوب، وكذلك "دار بلاقع"، أي: كل موضع منها بلقع. وقال : إن في قراءة الأعمش "وأرسلنا الرياح تلقح" ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: عبد الله "الريح من نفس الرحمن". ومعنى الإضافة هنا إضافة خلق إلى خالق، كما قال: "من روحي"، ومعنى "من نفس الرحمن" أي من تنفيسه وإزالته الكرب والشدائد، فمن التنفيس بالريح النصر بالصبا، ودرور الأرزاق بها، وما لها من الخدمة في الأرزاق وجلب الأمطار وغير ذلك مما يكثر عده، ولقد حدثت أن ابن أبي قحافة رحمه الله فسر هذا الحديث نحو هذا، وأنشد في تفسيره:
فإن الصبا ريح إذا ما تنفست ... على نفس مهموم تجلت همومها
وهذا من جملة التنفيس.
[ ص: 285 ] والعرب تقول: أسقى وسقى بمعنى واحد، وقال لبيد:
سقى قومي بني مجد وأسقى ... نميرا والقبائل من هلال
فجاء باللغتين، وقال : أما إذا كان من سقي الشفة خاصة فلا يقال إلا سقى، وأما إن كان لسقي الأرض والثمار وجملة الأشياء فيقال: أسقى، وأما الداعي لأرض أو غيرها بالسقي فإنما يقال فيه: أسقى، ومنه قول أبو عبيدة ذي الرمة:
وقفت على رسم لمية ناقتي ... فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه ... تكلمني أحجاره وملاعبه
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
على أن بيت لبيد دعاء، وفيه اللغتان.
وقوله تعالى: وإنا لنحن نحيي ونميت الآية. هذه الآية مع الآيات التي قبلها تضمنت وما يوجب توحيده وعبادته، فمعنى هذه الآية: وإنا لنحن نحيي من نشاء بإخراجه من العدم إلى وجود الحياة، ونرده عند البعث من مرقده ميتا، ونميت بإزالة الحياة عمن كان حيا. العبرة والدلالة على قدرة الله تعالى، ونحن الوارثون أي: لا يبقى شيء سوانا، وكل شيء هالك إلا وجهه، لا رب غيره.
ثم أخبر تعالى بإحاطة علمه بمن تقدم من الأمم وبمن تأخر في الزمن، من لدن أهبط آدم إلى الأرض إلى يوم القيامة، وأعلم أنه هو الحاشر لهم، الجامع لعرض يوم القيامة على تباعدهم في الأقطار والأزمان، وأن حكمته وعلمه يأتيان بهذا كله على أتم غاياته التي قدرها وأرادها. وقرأ : "يحشرهم" بكسر الشين. الأعرج
[ ص: 286 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
بهذا سياق معنى الآية، وهو قول جمهور المفسرين. وقال : معنى قوله: الحسن ولقد علمنا المستقدمين أي: في الطاعة والبدار إلى الإيمان والخيرات، و"المستأخرين" بالمعاصي.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وإن كان اللفظ يتناول كل من تقدم وتأخر على جميع وجوهه، فليس يطرد سياق معنى الآية إلا كما قدمنا. وقال ، ابن عباس ومروان بن الحكم، وأبو الجوزاء: نزل قوله تعالى: ولقد علمنا المستقدمين الآية في قوم كانوا يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت امرأة جميلة تصلي وراءه، فكان بعض القوم يتقدم في الصفوف لئلا تفتنه، وكان بعضهم يتأخر ليسرق النظر إليها في الصلاة، فنزلت الآية فيهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وما تقدم الآية من قوله: ونحن الوارثون وما تأخر من قوله: وإن ربك هو يحشرهم يضعف هذه التأويلات، لأنها تذهب إيصال المعنى، وقد ذكر ذلك محمد بن كعب القرظي لعون بن عبد الله.
وقوله تعالى: ولقد خلقنا الإنسان الآية. "الإنسان" هنا للجنس، والمراد آدم عليه السلام، قال رضي الله عنهما: سمي بذلك لأنه عهد إليه فنسي، ودخل من بعده في ذلك إذ هو من نسله. و "الصلصال" الطين الذي إذا جف صلصل، هذا قول فرقة، منها من قال: هو طين الخزف، ومنها قول ابن عباس : هو الطين الحر يخالطه رمل دقيق. وقال الفراء : خلق من ثلاثة: من طين لازب، وهو اللازق والجيد، ومن [ ص: 287 ] صلصال، وهو الأرض الطيبة يقع عليها الماء ثم ينحسر فتشقق وتصير مثل الخزف، ومن حمإ مسنون، وهو الطين في الحمأة. ابن عباس
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وكان الوجه -على هذا المعنى- أن يقال: "صلال"، لكن ضوعف الفعل من فائه، وأبدلت إحدى اللامين من "صلال" صادا، وهذا مذهب الكوفيين، وقاله ابن جني والزبيدي، ونحوهما على نحو البصرة ، ومذهب جمهور البصريين أنهما فعلان متباينان، وكذلك قالوا في ثرار وثرثارة، قال بعضهم: تقول: صل الخزف ونحوه إذا صوت بتمديد، فإذا كان في صوته ترجيع كالجرس ونحوه قلت: صلصل، ومنه قول الكميت:
فيها العناجيج تردي في أعنتها ... شعثا تصلصل في أشداقها اللجم
وقال وغيره: "صلصال" هنا إنما هو من: "صل اللحم" إذا أنتن، فجعلوا معنى "صلصال" و "حمأ" في لزوم النتن شيئا واحدا. مجاهد
و"المسنون" قال معناه: المنتن، وهو من "أسن الماء" إذا تغير، والتصريف يرد هذا القول، وقال معمر: رضي الله عنهما: المسنون: الرطب، وهذا تفسير لا يخص اللفظة، وقال ابن عباس : المعنى: سن ذريته على خلقه، الذي يترتب في "مسنون" إما أن يكون: محكوك محكم العمل أملس السطح، فيكون من معنى المسن والسنان، وقولهم: "سننت السكين، وسننت الحجر" إذا أحكمت ملسه، ومن ذلك قول الشاعر: الحسن
ثم دافعتها إلى القبة الخضـ ... ـراء تمشي في مرمر مسنون
[ ص: 288 ] أي: محكم الإملاس، وإما أن يكون بمعنى المصبوب: تقول: "سننت التراب والماء" إذا صببته شيئا بعد شيء، ومنه قول رضي الله عنه لمن حضر وفاته: "إذا أدخلتموني في قبري فسنوا علي التراب سنا"، ومن هذا سن الغارة. وقال عمرو بن العاص : هو مأخوذ من كونه على سنة الطريق، لأنه إنما يتغير إذا فارق الماء، فمعنى الآية على هذا: من حمأ مصبوب يوضع بعضه فوق بعض على مثال وصورة. الزجاج
"والجان" يراد به جنس الشياطين، ويسمون جنة وجانا وجنا لاستتارهم عن العين، وسئل عنهم فقال: هم أجناس، فأما خالص الجن فهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ولا يموتون ولا يتوالدون، ومنهم أجناس تفعل هذا كله، منها السعالي والغول وأشباه ذلك. وقرأ وهب بن منبه "الجأن" بالهمز، والمراد بهذه الخلقة إبليس أبو الجن، وفي الحديث: الحسن بن أبي الحسن: "إن الله تعالى خلق آدم من جميع أنواع التراب، الطيب والخبيث، والأسود والأحمر"، وفي سورة البقرة إيعاب هذا. وقوله: "من قبل" لأن إبليس خلق قبل آدم بمدة، وخلق آدم آخر الخلق. و"السموم" [ ص: 289 ] في كلام العرب إفراط الحر حتى يقتل، من نار أو شمس أو ريح، وقالت فرقة: السموم بالليل، والحرور بالنهار، وأما إضافة النار إلى السموم في هذه الآية فيحتمل أن تكون النار أنواعا ويكون السموم أمرا يختص بنوع منها فتصح الإضافة حينئذ، وإن لم يكن هذا فيخرج هذا على قولهم: "مسجد الجامع" و"دار الآخرة" على حذف مضاف.