إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين نبئ عبادي أني أنا [ ص: 295 ] الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم
ذكر الله تعالى عقب ذكره ما أعد لأهل النار ليظهر التباين، وقرأ الجمهور: "وعيون" بضم العين، وقرأ ما أعد لأهل الجنة نبيح، والجراح، وأبو واقد، -في رواية ويعقوب رويس- بكسر العين، مثل بيوت وشيوخ.
وقرأ الجمهور: "ادخلوها" على الأمر بمعنى يقال لهم: ادخلوها، وقرأ رويس عن يعقوب : "أدخلوها" على بناء الفعل للمفعول بضم الهمزة وكسر الخاء وضم التنوين في "عيون" ألقى عليه حركة الهمزة. و "السلام" هاهنا يحتمل أن يكون السلامة، ويحتمل أن يكون التحية، و "الغل": الحقد، وذكر الله تعالى في هذه الآية أنه ولم يذكر لذلك موطنا، وجاء في بعض الحديث أن ذلك على الصراط، وجاء في بعضها أن ذلك على أبواب الجنة، وفي لفظ بعضها أن الغل ليبقى على أبواب الجنة كمعاطن الإبل. ينزع الغل من قلوب أهل الجنة،
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا على أن الله تعالى يجعل ذلك تمثيلا بلون يخلقه هناك ونحوه، وهذا كحديث ذبح الموت، وقد يمكن أيضا أن يسل من الصدور، ولذلك جواهر سود فيكون [ ص: 296 ] كمبارك الإبل، وجاء في بعض الأحاديث أن نزع الغل إنما يكون بعد استقرارهم في الجنة، والذي يقال في هذا أن الله ينزعه في موطن من قوم، وفي موطن من آخرين، وقال رضي الله عنه: "إني لأرجو أن أكون أنا علي بن أبي طالب وطلحة ممن قال الله فيهم: والزبير ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين ، وذكر أن ابنا لطلحة كان عنده، فاستأذن الأشتر فحبسه مدة، ثم أذن له فدخل، فقال: ألهذا حبستني؟ وكذلك لو كان ابن عثمان حبستني له؟ فقال نعم، إني أنا علي: وعثمان وطلحة ممن قال الله فيهم: والزبير ونزعنا ما في صدورهم من غل الآية. وقد روي أن المستأذن غير الأشتر.
و"إخوانا" نصب على الحال، وهذه أخوة الدين والود. والأخ من ذلك يجمع على إخوان وإخوة، والأخ من النسب يجمع إخوة وآخاء، ومنه قول الشاعر:
وأي بني الآخاء تصفو مذاهبه؟
و"السرر": جمع سرير، و"متقابلين" الظاهر أن معناه: في الوجوه، إذ الأسرة متقابلة، فهي أحسن في الزينة، قال : لا ينظر أحدهم في قفا صاحبه، وقيل: متقابلين في المودة، وقيل غير هذا مما لا يعطيه اللفظ. مجاهد
و "النصب": التعب، يقع على القليل والكثير، ومن الكثير قول موسى عليه [ ص: 297 ] السلام: لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ومنه قول الشاعر:
كليني لهم يا أميمة ناصب
وقوله تعالى: "نبئ" معناه: أعلم، و"عبادي" مفعول بـ "نبئ"، وهي تتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، فـ "عبادي" مفعول، و "أن" تسد مسد المفعولين الباقيين، واتفق ذلك وهي وما عملت فيه بمنزلة اسم واحد، ألا ترى أنك إذا قلت: "أعجبني أن زيدا منطلق" إنما المعنى: أعجبني انطلاق زيد، لأن دخولها إنما هو على جملة ابتداء وخبر، فسدت تلك مسد المفعولين، وقد يتعدى "نبأ" إلى مفعولين فقط، ومنه قوله تعالى: من أنبأك هذا ، وتكون في هذا الموضع بمعنى: أخبر وعرف، وفي هذا كله نظر.
وهذه آية ترجية وتخويف، وروي في هذا المعنى عن النبي أنه قال: "لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورع من حرام، ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه" ، وروي في هذه الآية أن سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى جماعة من أصحابه عند باب بني شيبة في الحرم فوجدهم يضحكون، فزجرهم ووعظهم، ثم ولى، فجاءه جبريل عن الله فقال: يا محمد، أتقنط عبادي؟ وتلا عليه الآية، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وأعلمهم. ولو لم يكن هذا السبب لكان ما قبلها يقتضيها، إذ قد تقدم ذكر ما في النار وما في الجنة فأكد تعالى تنبيه الناس بهذه الآية.