وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين وجاء أهل المدينة يستبشرون قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزون قالوا أولم ننهك عن العالمين قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم إن في ذلك لآية للمؤمنين
المعنى: وقضينا ذلك الأمر، أي: أمضياه وحتمناه، ثم أدخل في الكلام "إليه" من حيث أوحى ذلك إليه وأعلمه الله به، فجلب هذا المعنى بإيجاز، وحذف ما يدل الظاهر عليه. و"أن" في موضع نصب، قال هي بدل من "ذلك"، وقال الأخفش: التقدير: "بأن دابر" فحذف حرف الجر، والأول أصوب. الفراء:
و "الدابر": الذي يأتي آخر القوم، أي في أدبارهم، وإذا قطع ذلك وأتي عليه فقد أتى العذاب من أولهم إلى آخرهم، وهذه ألفاظ دالة على الاستئصال والهلاك التام، يقال: "قطع الله دابره"، و"استأصل شأفته"، و"أسكت نأمته" بمعنى. و"مصبحين" معناه: إذا أصبحوا ودخلوا في الصباح.
وقوله تعالى: وجاء أهل المدينة يستبشرون يحتمل أن يرجع إلى وصف أمر جرى قبل إعلام لوط بهلاك أمته، ويدل على هذا أن محاجة لوط لقومه تقتضي ضعف من لم يعلم إهلاكهم وأن الأضياف ملائكة. ويحتمل قوله: [ ص: 307 ] وجاء أهل المدينة بعد علمه بهلاكهم، وكان قولهم ما يأتي من المحاورة على جهة التهكم عنهم، والإملاء لهم، والتربص بهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والاحتمال الأول عندي أرجح، وهو الظاهر من آيات غير هذه السورة. وقوله: "يستبشرون" أي: بالأضياف طمعا منهم في الفاحشة، والضيف مصدر وصف به فهو يقع للواحد والجميع والمذكر والمؤنث.
وقولهم: أولم ننهك عن العالمين ، روي أنهم كانوا قد تقدموا إليه في ألا يضيف أحدا ولا يجيره، لأنهم لا يراعونه ولا يكفون عن طلب الفاحشة فيه، وقرأ : "إن دابر" بكسر الهمزة، وروي أن في قراءة الأعمش "وقضينا إليه ذلك الأمر وقلنا إن دابر هؤلاء"، وذكر عبد الله: أنهم إنما كانوا يفعلون الفاحشة مع الغرباء ولا يفعلونها بعضهم ببعض، فكانوا يعترضون الطرق. السدي
وقول لوط عليه السلام: هؤلاء بناتي اختلف في تأويله فقيل: أراد نساء أمته، لأن زوجات النبيين أمهات الأمم وهو أبوهم، فالنساء بناته في الحرمة، والمراد بالتزويج، ويلزم هذا التأويل أن يكون في شرعه جواز زواج الكافر للمؤمنة، وقد ورد أن المؤمنات به قليل جدا. وقيل: إنما أراد بنات صلبه، ودعا إلى التزويج أيضا، قاله ، ويلزم هذا التأويل أيضا ما لزم المتقدم في ترتيبنا، ويحتمل أن يريد عليه السلام بقوله: قتادة هؤلاء بناتي بنات صلبه، ويكون ذلك على طريق المجاز، وهو لا يحقق في إباحة بناته، وهذا كما تقول لإنسان تراه يريد قتل آخر: اقتلني ولا تقتله، فإنما ذلك على جهة التشنيع عليه، والاستنزال من جهة ما، واستدعاء الحياء منه، وهذا كله من مبالغة القول الذي لا يدخله معنى الكذب، بل الغرض منه مفهوم، وعليه قول النبي صلي الله عليه وسلم: إلى غير هذا من الأمثلة. "ولو كمفحص قطاة"،
و "العمر" و"العمر" بفتح العين وضمها واحد، وهما عمر الحياة ومدتها، ولا يستعمل في القسم إلا بالفتح، وفي هذه الآية شرف لمحمد صلي الله عليه وسلم لأن الله تعالى أقسم [ ص: 308 ] بحياته، ولم يفعل ذلك مع بشر سواه، قاله رضي الله عنه، والقسم بـ "لعمرك" في القرآن وبـ "لعمري" ونحوه في أشعار ابن عباس العرب وفصيح كلامها في غير موضع، كقوله:
لعمري وما عمري علي بهين
وقول الآخر:
لعمر أبيك ما نسب المعلى
وكقول الآخر:
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطول المرخى وثنياه باليد
[ ص: 309 ] والعرب تقول: "لعمر الله"، ومنه قول الشاعر:
إذا رضيت علي بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها
وقال الأعشى:
ولعمر من جعل الشهور علامة ... فينا فبين نصفها وكمالها
وقال بعض أصحاب المعاني: لا يجوز هذا لأنه لا يقال: لله تعالى عمر، وإنما يقال: بقاء أزلي، ذكره ، وكره الزهراوي أن يقول الرجل: "لعمري"، لأنه حلف بحياة نفسه، وذلك من كلام ضعفة الرجال، ونحو هذا. وقول إبراهيم النخعي في [ ص: 310 ] "لعمري ولعمرك" أنها ليست بيمين، وقال مالك ينبغي أن تصرف "لعمرك" في الكلام اقتداء بهذه الآية. ابن حبيب:
و"يعمهون" أي يرتبكون ويتحيرون، والضمائر في "سكرتهم" يراد بها قوم لوط المذكورون، وذكر أن المراد الطبري قريش، وهذا بعيد لأنه ينقطع مما قبله ومما بعده. وقوله:"في سكرتهم" مجاز وتشبيه، أي: في ضلالتهم وغفلتهم عن الحق ولهوهم، و"يعمهون" معناه: يترددون في حيرتهم، و"مشرقين" معناه: قد دخلوا في الإشراق، وهو سطوع ضوء الشمس وظهوره، قاله ، وهذه الصيحة هي صيحة الوجبة، وليست كصيحة ثمود، وأهلكوا بعد الفجر مصبحين، واستوفاهم الهلاك مشرقين. وخبر قوله: "لعمرك" محذوف تقديره: لعمرك قسمي أو يميني، وفي هذا نظر. وقرأ ابن زيد : "وعمرك"، وقرأ ابن عباس "لفي سكرتهم" بضم السين، وقرأ الأشهب العقيلي: : "سكراتهم"، وقرأ ابن أبي عبلة : "لفي سكرهم" بغير تاء، وقرأ الأعمش في رواية أبو عمرو الجهضمي: "أنهم" بفتح الهمزة "في سكرتهم".
وروي في معنى قوله: فجعلنا عاليها سافلها أن جبريل عليه السلام اقتلع المدينة بجناحه ورفعها حتى سمعت ملائكة السماء صراخ الديكة ونباح الكلاب، ثم قلبها وأرسل الكل، فمن سقط عليه شيء من ردم المدينة مات، ومن أفلت منهم أصابته حجارة من سجيل، و"سجيل" اسم من أسماء سماء الدنيا، وقيل: هي لفظة فارسية، وهي الحجارة المطبوخة من الطين كالآجر ونحوه، وقد تقدم القول في هذا.
و"المتوسمون" قال : المتفرسون، وقال مجاهد الناظرون، وقال الضحاك: : المعتبرون، وقيل غير هذا مما هو قريب منه، وهذا كله تفسير لها بالمعنى، وإنما تفسيرها باللفظ، فإن المعاني التي تكون في الإنسان وغيره من خير أو شر يلوح عليه وسم عن تلك المعاني كالسكون والديانة والهيبة التي تكون عن الخير ونحو هذا، فالمتوسم هو الذي ينظر في وسم المعنى ليستدل به على المعنى، وكأن معصية هؤلاء أبقت من العذاب والإهلاك وسما، فمن رأى الوسم استدل على المعصية به، واقتاده [ ص: 311 ] النظر إلى تجنب المعاصي لئلا ينزل به ما نزل بهم، ومن الشعر في هذه اللفظة قول الشاعر: قتادة
توسمته لما رأيت مهابة ... عليه وقلت المرء من آل هاشم
وقال آخر:
وظللت فيها واقفا أتوسم
وقال آخر:
إني توسمت فيك الخير نافلة
والضمير في قوله: "وإنها" يحتمل أن يعود على المدينة المهلكة، أي: أنها في طريق ظاهر للمعتبر، وهذا تأويل ، مجاهد ، وقتادة ويحتمل أن يعود على الآيات، ويحتمل أن يعود على الحجارة، ويقوي هذا التأويل ما روي أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: وابن زيد، "إن حجارة العذاب معلقة بين السماء والأرض منذ ألفي سنة لعصاة أمتي". وقوله: "لآية" أي أمارة وعلامة، كما تقول: آية ما بيني وبينك كذا وكذا.