وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى [ ص: 336 ] الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون
وما ذرأ لكم في الأرض معناه: بث ونشر، و"الذرية" من هذا في أحد الأقوال في اشتقاقها، وقوله: "ألوانه" معناه: أصنافه، كما تقول: هذه ألوان من الثمر ومن الطعام، ومن حيث كانت هذه المبثوثات في الأرض أصنافا عدت في النعمة، وظهر الانتفاع بها أنه على وجوه، ولا يظهر ذلك من حيث هي متلونة حمرة وصفرة وغير ذلك، ويحتمل أن يكون التنبيه على اختلاف الألوان حمرة وصفرة، والأول أبين.
وقوله تعالى: وهو الذي سخر البحر الآية، تعديد نعم الله، وتسخير البحر هو تمكين البشر من التصرف فيه، وتذليله للركوب والأرفاد وغيره.
والبحر: الماء الكثير ملحا كان أو عذبا، كله يسمى بحرا، والبحر هنا اسم جنس، وإذا كان كذلك فمنه أكل اللحم الطري، ومنه استخراج الحلية، و أكل اللحم يكون من ملحه وعذبه، وإخراج الحلية إنما هو -فيما عرف- من الملح فقط، ومما عرف من ذلك اللؤلؤ والمرجان والصدف والصوف البحري، وقد يوجد في العذب لؤلؤ لا يلبس إلا قليلا، وإنما يتداوى به، ويقال: إن في الزمرد بحريا، وقد خطئ الهذلي في قوله في وصف الدرة.
فجاء بها من درة لطمية ... على وجهها ماء الفرات يموج
[ ص: 337 ] فجعلها من الماء الحلو.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وتأمل قوله: "يموج" على أنه وصف بريقها ومائيتها فشبهه بماء الفرات، ولم يذهب إلى الغرض الذي خطئ فيه. و "اللحم الطري": السمك، و "الحلية": ما تقدم، و"الفلك" هنا جمع، و"مواخر" جمع ماخرة، و"المخر" في اللغة الصوت الذي يكون من هبوب الريح على شيء يشق، أو يصحب في الجملة الماء، فيترتب منه أن يكون "المخر" من الريح، وأن يكون من السفينة ونحوها، وهو في هذه الآية من السفن، ويقال للسحاب: "بنات مخر" تشبيها، إذ في جريها ذلك الصوت الذي هو عن الريح، والماء الذي في السحاب وأمرها يشبه أمر البحر، على أن قد قال: "بنات البحر": سحاب بيض لا ماء فيها، وقال بعض اللغويين: المخر في كلام الزجاج العرب : الشق، يقال: مخر الماء الأرض، فهذا بين أن يقال فيه للفلك: مواخر، وقال قوم: "مواخر" معناه: تجيء وتذهب بريح واحدة، وهذه الأقوال ليست تفسيرا للفظة، وإنما أرادوا أنها مواخر بهذه الأحوال، فنصوا على هذه الأحوال; إذ هي موضع النعم المعددة; إذ نفس كون الفلك ماخرة لا نعمة فيه، وإنما النعمة في مخرها بهذه الأحوال في التجارات، والسفر فيها، وما يمنح الله فيها من الأرباح والمنن، وقال : "المخر" في اللغة: صوت هبوب الريح، ولم يقيد ذلك بكون في ماء، وقال: إن من ذلك قول الطبري واصل مولى أبي عيينة: إذا أراد أحدكم البول فليتمخر الريح؛ أي: لينظر في صوتها في الأجسام من أين تهب، فيتجنب استقبالها لئلا ترد عليه بوله.
وقوله: "ولتبتغوا" عطف على قوله: "تأكلوا"، وهذا ذكر نعمة لها تفاصيل لا تحصى، وفيه ركوب البحر للتجارة وطلب الأرباح، فهذه ثلاثة أسباب في تسخير البحر.
وقوله تعالى: وألقى في الأرض الآية. قال المتأولون: "ألقى" بمعنى خلق وجعل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
[ ص: 338 ] وهي عندي أخص من خلق وجعل، وذلك أن ألقى تقتضي أن الله أحدث الجبال ليس من الأرض، لكن من قدرته واختراعه، ويؤيد هذا النظر ما روي في القصص عن عن الحسن قيس بن عباد أن الله تعالى لما خلق الأرض جعلت تمور، فقالت الملائكة: ما هذه بمقرة على ظهرها أحدا، فأصبحت ضحى وفيها رواسيها، و "الرواسي": الثوابت، رسا الشيء يرسو إذا ثبت، ومنه قول الشاعر في صفة الوتد:
وأشعث ترسيه الوليدة بالفهر
و"أن" مفعول من أجله، و "الميد": الاضطراب، وقوله: "أنهارا" منصوب بفعل مضمر، تقديره: وجعل أو خلق أنهارا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وإجماعهم على إضمار هذا الفعل دليل على خصوص "ألقى"، ولو كان "ألقى" بمعنى "خلق" لم يحتج إلى الإضمار. و "السبل": الطرق، وقوله: "لعلكم تهتدون" يحتمل أن يكون: لعلكم تهتدون في مشيكم وتصرفكم في السبل، ويحتمل لعلكم تهتدون بالنظر في هذه المصنوعات على صانعها، وهذا التأويل هو البارع؛ أي: سخر وألقى وجعل أنهارا وسبلا لعل البشر يعتبرون ويرشدون، ولتكون علامات.