أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءوف رحيم أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون
هذه الآية تهديد لأهل مكة ، وهم المراد "الذين" في قول الأكثرين، وقال : المراد مجاهد نمروذ بن كنعان.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والأول أظهر، ونصب "السيئات" يحتمل وجهين، أحدهما أن ينصب بقوله: أفأمن الذين ، وتكون السيئات -على هذا- العقوبات التي تسوء من تنزل به، ويكون قوله: أن يخسف بدلا منها، والوجه الثاني أن تنصب بـ "مكروا"، وعدي "مكروا" لأنه بمعنى "عملوا" أو "فعلوا"، و"السيئات" -على هذا- معاصي الكفر وغيره، قاله . ثم توعدهم بما أصاب الأمم قبلهم من الخسف، وهو أن تبتلع الأرض المخسوف به ويقعد به إلى أسفل، وأسند النقاش عن بعض أهل العلم أن قوما في هذه الأمة أقيمت الصلاة فتدافعوا الإمامة وتصلفوا في ذلك فما زالوا كذلك حتى خسف بهم. قتادة
و"تقلبهم": سفرهم ومحاولتهم المعايش بالسفر وبالرعاية وغيرها، و "المعجز": المفلت هربا، كأنه عجز طالبه، وقوله: على تخوف ، أي: على جهة التخوف، والتخوف: التنقص، ومنه قول الشاعر يصف ناقة:
[ ص: 360 ]
تخوف السير منها تامكا قردا ... كما تخوف عود النبعة السفن
فالسفن: المبرد، ويروى أن رضي الله عنه خفي عليه معنى "التخوف" في هذه الآية، وأراد الكتب إلى الأمصار يسأل عن ذلك حتى سمع هذا البيت، ويروى أنه جاء فتى من عمر بن الخطاب العرب وهو قد أشكل عليه أمر لفظة التخوف، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن أبي يتخوفني مالي، فقال رضي الله عنه: الله أكبر عمر أو يأخذهم على تخوف ، ومنه قول طرفة:
وجامل خوف من نيبه ... زجر المعلى أصلا والسفيح
ويروى: من نفسه، ومنه قول الآخر:
ألام على الهجاء وكل يوم ... يلاقيني من الجيران غول
تخوف عدوهم مالي وأهدى ... سلاسل في الحلوق لها صليل
يريد الأهاجي. ومنه قول : النابغة
[ ص: 361 ]
تخوفهم حتى أذل سراتهم ... بطعن ضرار بعد نفح الصفائح
وهذا التنقص يتجه الوعيد به على معنيين: أحدهما: أن يهلكهم ويخرج أرواحهم على تخوف، أي أفذاذا، يتنقصهم بذلك الشيء بعد الشيء، وهذا لا يدعي أحد أنه يأمنه، وكأن هذا الوعيد إنما يكون بعذاب ما يلقون بعد الموت، وإلا فهكذا تهلك الأمم كلها، ويؤيد هذا قوله: فإن ربكم لرءوف رحيم ، أي أن هذه الرتبة الثالثة من الوعيد فيها رأفة ورحمة وإمهال ليتوب التائب ويرجع الراجع، والآخر: ما قال أن يأخذ بالعذاب طائفة أو قرية ويترك أخرى، ثم كذلك حتى يهلك الكل. وقالت فرقة: التخوف هنا من الخوف، أي: يأخذهم بعد تخوف ينالهم فيعذبهم به. الضحاك:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وفي هذا تكلف ما.
وقوله: أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء الآية، قرأ ، ابن كثير ، وأبو عمرو، ونافع : "أو لم يروا" بالياء، على لفظ الغائب، وكذلك في العنكبوت، فهي جارية على قوله: وابن عامر أو يأخذهم وقوله: أو يأتيهم وقوله: لا يشعرون ، ورجحها . وقرأ الطبري ، والكسائي: "أو لم تروا" بالتاء من فوق في الموضعين، وهي قراءة حمزة ، الحسن ، والأعرج وأبي عبد الرحمن ، وذاك يحتمل من المعنى وجهين: أحدهما على معنى: قل لهم يا محمد أو لم تروا، والوجه الثاني أن يكون خطابا عاما لجميع الخلق ابتدأ به القول آنفا، وقرأ في النحل بالتاء من فوق، واختلف عنه في العنكبوت. وقوله: عاصم من شيء لفظ عام في كل ما اقتضته الصفة في قوله: يتفيأ ظلاله لأن ذلك صفة لما عرض للعبرة في جميع الأشخاص التي لها [ ص: 362 ] ظل، والرؤية هنا هي رؤية القلب، ولكن الاعتبار برؤية القلب إنما تكون في مرئيات بالعين، وقرأ وحده: "تتفيأ" بالتاء من فوق، وهي قراءة أبو عمرو عيسى وقرأ الجمهور: "يتفيأ" ، قال ويعقوب، : إذا تقدم الفعل المسند إلى مثل هذا الجمع فالتذكير والتأنيث فيه حسنان. و"فاء الظل": رجع بعكس ما كان إلى الزوال، وذلك أن الشمس من وقت طلوعها إلى وقت الزوال إنما هي في نسخ الظل العام قبل طلوعها، فإذا زالت ابتدأ رجوع الظل العام، ولا يزال ينمو حتى تغيب الشمس فيعم، والظل الممدود في الجنة لم يذكر الله فيئا لأنه لم يرجع بعد أن ذهب، وكذلك قول أبو علي حميد بن ثور:
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ... ولا الفيء من برد العشي تذوق
فهو على المهيع، وكذلك قول علقمة بن عبدة:
تتبع أفياء الظلال عشية ... على طرق كأنهن سيوب
وكذلك قول امرئ القيس :
يفيء عليها الظل
[ ص: 363 ] وأما فقال: النابغة الجعدي
فسلام الإله يغدو عليهم ... وفيوء الفردوس ذات الظلال
فتجوز في أن جعل الفيء حيث لا رجوع، وقال يقال بعد الزوال: فيء وظل، ولا يقال قبله إلا ظل فقط، ويقال: فاء الظل إذا رجع من النقصان إلى الزيادة، ويعدى "فاء" بالهمزة، كقوله تبارك تعالى: رؤبة بن العجاج: ما أفاء الله على رسوله ، ويعدى بالتضعيف، فيقال: أفاءه الله وفيأه، وتفيأ مطاوع فيأ، ولا يقال الفيء إلا من بعد الزوال في مشهور كلام العرب ، لكن هذه الآية الاعتبار فيها من أول النهار إلى آخره، فكأن الآية جارية في بعض التأويلات على تجوز كلام العرب واقتضائه وضع "تتفيأ" مكان "تتنقل" و"تميل"، وأضاف الظلال إلى ضمير مفرد حملا على لفظ "ما"، أو لفظ "شيء"، وهو بالمعنى لجميع، وقرأ الثقفي: "ظلله" بفتح اللام الأولى وضم الثانية وضم الظاء.
وقوله تعالى: عن اليمين والشمائل ، أفرد "اليمين" وهو يراد به الجمع فكأنه للجنس، والمراد: عن الأيمان والشمائل، كما قال الشاعر:
الواردون وثيم في ذرى سبأ ... قد عض أعناقهم جلد الجواميس
قال الآخر:
بفي الشامتين الصخر إن كان هدني ... رزية شبلي مخدر في الضراغم
[ ص: 364 ] والمنصوب للعبرة في هذه الآية هو كل شخص وجرم له ظل كالجبال والشجر وغير ذلك، والذي يترتب فيه أيمان وشمائل إنما هو البشر فقط، ولكن ذكر الأيمان والشمائل هنا هو على جهة الاستعارة لغير البشر، أي: تقدره ذا يمين وشمال، وتقدره يستقبل أي جهة شئت ثم تنظر ظله فتراه يميل إما إلى جهة اليمين وإما إلى جهة الشمال، وذلك في كل أقطار الدنيا، فهذا وجه يعمم لك ألفاظ الآية، وفيه تجوز واتساع، ومن ذهب إلى أن اليمين من غدوة النهار إلى الزوال، ثم يكون من الزوال إلى المغيب عن الشمال، -وهو قول ، قتادة - فإنما يترتب له ذلك فيما قدره مستقبل الجنوب، والاعتبار في هذه الآية عندي إنما هو في مستقبل الجنوب، وما قال بعض الناس من "أن اليمين أول دفعة للظل بعد الزوال، ثم الآخر إلى الغروب هي عن الشمائل، ولذلك جمع الشمائل وأفرد اليمين" فتخليط من القول يبطل من جهات، وقال وابن جريج رضي الله عنهما: إذا صليت الفجر كان ما بين مطلع الشمس إلى مغربها ظلا، ثم بعث الله الشمس عليه دليلا فقبض إليه الظل. ابن عباس
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وعلى هذا فأول ذرور الشمس فالظل عن يمين مستقبل الجنوب، ثم يبدأ الانحراف فهو عن الشمائل، لأنها حركات كثيرة وظلال مقطعة، فهي شمائل كثيرة، وكان الظل عن اليمين متصلا واحدا عاما لكل شيء، وفي هذا القول تجوز في تفيأ، وعلى ما قدرنا من استقبال الجنوب يكون الظل أبدا مندفعا عن اليمين إلى الزوال، فإذا تحرك بعد فارق الأيمان جملة وصار اندفاعه عن الشمائل، وقالت فرقة: الظلال هنا: الأشخاص، وهي المراد أنفسها، والعرب تعبر أحيانا عن الأشخاص بالظل، ومنه قول عبدة بن الطيب:
[ ص: 365 ]
إذا نزلنا نصبنا ظل أخبية ... وفار للقوم باللحم المراجيل
وإنما تنصب الأخبية، ومنه قول الآخر:
تتبع أفياء الظلال عشية
أي أفياء الأشخاص، وهذا كله محتمل غير صريح، وإن كان قد قرره. أبو علي
واختلف المتأولون في هذا السجود -فقالت فرقة: هو سجود عبادة حقيقة، وذكر عن الضحاك قال: إذا زالت الشمس سجد كل شيء قبل القبلة من نبت أو شجر، ولذلك كان الصالحون يستحبون الصلاة في ذلك الوقت، وقال الطبري : إنما تسجد الظلال لا الأشخاص، وقالت فرقة -منهم مجاهد -: عبر عن الخضوع والطاعة وميلان الظلال ودورانها بالسجود، وكما يقال للمشير برأسه نحو الأرض على جهة الخضوع: ساجد، ومنه قول الشاعر: الطبري
فكلتاهما خرت وأسجد رأسها ... كما سجدت نصرانة لم تحنف
و"الداخر": المتصاغر المتواضع، ومنه قول ذي الرمة:
فلم يبق إلا داخر في مخيس ... ومنجحر في غير أرضك في جحر