ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون
وقعت "ما" في هذه الآية لما يعقل، قال : قوله: الزجاج ما في السماوات يعم ملائكة السماء وما في السحاب وما في الجو من حيوان، وقوله: وما في الأرض من دابة بين، ثم ذكر ملائكة الأرض في قوله: "والملائكة".
وقال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ويحتمل أن يكون قوله: "والملائكة" هو الذي يعم ملائكة السماوات والأرض، وما قبل ذلك لا يدخل فيه ملك، إنما هو الحيوان أجمع. وقوله: "من فوقهم" يحتمل معنيين: أحدهما الفوقية التي يوصف بها الله تعالى، فهي فوقية القدر والعظمة والقهر والسلطان، والآخر أن يتعلق قوله: من فوقهم بقوله: "يخافون"، أي: يخافون عذاب ربهم من فوقهم، وذلك أن عادة عذاب الله للأمم إنما أتى من جهة فوق. وقوله: ويفعلون ما يؤمرون ، أما المؤمنون فبحسب الشرع والطاعة، وأما غيرهم من الحيوان فبالتسخير والقدر الذي يسوقهم إلى ما تقدم من أمر الله تبارك تعالى.
وقوله تعالى: وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين نهي من الله تبارك وتعالى عن الإشراك به، ومعناها: لا تتخذوا إلهين اثنين فصاعدا بما ينصه قوله: إنما هو إله واحد ، قالت فرقة: المفعول الأول لـ "تتخذوا" قوله: "إلهين" وقوله: "اثنين" تأكيد وبيان بالعدد، وهذا معروف في كلام العرب ، أن يبين المعدود بذكر عدده تأكيدا، ومنه قوله: إله واحد ، لأن لفظة الإله تقتضي الانفراد، وقال قوم منهم: المفعول الثاني محذوف، تقديره: مفردا، أو معبودا، أو مطاعا، ونحو هذا، وقالت فرقة: [ ص: 367 ] المفعول الأول قوله: "اثنين"، والثاني قوله: "إلهين"، وتقدير الكلام: لا تتخذوا اثنين إلهين، ولا يحتاج إلى اعتذار بالتأكيد، ومثله قوله تعالى: ألا تتخذوا من دوني وكيلا ذرية من حملنا مع نوح ، ففي هذه الآية -على بعض الأقوال- تقديم المفعول الأول لـ "تتخذوا"، وقوله: "فإياي" منصوب بفعل مضمر تقديره: فارهبوا إياي فارهبون، ولا يعمل فيه الفعل الظاهر، لأنه قد عمل في الضمير المتصل به.
وقوله تعالى: وله ما في السماوات الآية، الواو في قوله: "وله" عاطفة على قوله: إله واحد ، وجائز أن تكون واو ابتداء، و"ما" عامة جميع الأشياء مما يعقل ومما لا يعقل، والسماوات هنا كل ما ارتفع من الخلق في جهة فوق، فيدخل فيه العرش والكرسي، و"الدين": الطاعة والملك كما قال زهير:
في دين عمرو وحالت بيننا فدك.
في طاعته وملكه. و "الواصب": الدائم، قاله ، ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد وقال الشاعر : والضحاك،
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه ... يوما بذم الدهر أجمع واصبا
[ ص: 368 ] ومنه قول حسان بن ثابت:
غيرته الريح تسفي به ... وهزيم رعده واصب
وقالت فرقة: هو من الوصب وهو التعب: أي: وله الدين على تعبه ومشقته. فـ "واصب" -على هذا- جار على النسب، أي: ذا وصب، كما قال:
أضحى فؤادي به فاتنا
وهذا كثير، وقال -رضي الله عنهما- أيضا: الواصب: الواجب، وهذا نحو قوله: الواصب: الدائم. ابن عباس
وقوله تعالى: أفغير الله توبيخ ولفظ استفهام، ونصب "غير" بـ "تتقون"، لأنه فعل لم يعمل في سوى "غير" المذكورة.
والواو في قوله تعالى: وما بكم يجوز أن تكون واو ابتداء، ويجوز أن تكون واو الحال ويكون الكلام متصلا بقوله: أفغير الله تتقون ، كأنه يقول على جهة التوبيخ: أتتقون غير الله ولا منعم عليكم سواه؟ والباء في قوله: "بكم" متعلقة بفعل تقديره: وما نزل أو ألم، ونحو هذا، و"ما" بمعنى "الذي"، والفاء في قوله: فمن الله دخلت بسبب الإبهام الذي في "ما" التي هي بمعنى "الذي"، فأشبه الكلام الشرط، ومعنى الآية التذكير بأن الإنسان في جليل أمره ودقيقه إنما هو في نعمة الله [ ص: 369 ] وأفضاله، إيجاده داخل في ذلك فما بعده، ثم ذكر تعالى بأوقات المرض لكون الإنسان الجاهل يحس فيها قدر الحاجة إلى لطف الله تعالى، و"الضر -وإن كان يعم كل مكروه- فأكثر ما يجيء عبارة عن أرزاء البدن. و"تجأرون" معناه ترفعون أصواتكم باستغاثة وتضرع، وأصله في جؤار الثور والبقرة وصياحهما، وهو عند جهد يلحقها، أو في أثر دم يكون من بقر تذبح، فذلك الصراخ يشبه به انتحاب الداعي المستغيث بالله إذ رفع صوته، ومنه قول الأعشى :
يراوح من صلوات المليـ ... ـك طورا سجودا وطورا جؤارا
وأنشد : أبو عبيدة
بأبيل كلما صلى جأر
[ ص: 370 ] والأصوات تأتي غالبا على فعال أو فعيل. وقرأ "تجرون" بفتح الجيم دون همز، حذفت وألقيت حركتها على الجيم، كما خفف تسلون من تسألون. الزهري
وقوله تعالى: ثم إذا كشف الضر عنكم ، قرأ الجمهور: "كشف"، وقرأ قتادة: "كاشف"، ووجهها أنها فاعل من واحد بمعنى "كشف"، وهي ضعيفة. و"الفريق" هنا يراد به المشركون الذين يرون أن للأصنام أفعالا من شفاء المرضى وجلب الخير ودفع الضر، فهم إذا شفاهم الله عظموا أصنامهم، وأضافوا ذلك الشفاء إليها.
وقوله تعالى: "ليكفروا" يجوز أن تكون اللام لام الصيرورة، أي: فصار أمرهم ليكفروا، وهم لم يقصدوا بأفعالهم تلك أن يكفروا، ويجوز أن تكون لام أمر على معنى التهديد والوعيد، كقوله تعالى: اعملوا ما شئتم ، والكفر هنا يحتمل أن يكون كفر الجحد بالله والشرك، ويؤيده قوله: بربهم يشركون ، ويحتمل أن يكون كفر النعمة، وهو الأظهر; لقوله: ليكفروا بما ، أي: بما أنعمنا عليهم. وقرأ الجمهور: "فتمتعوا فسوف تعلمون" على معنى: قل لهم يا محمد، وروى أبو رافع عن النبي صلي الله عليه وسلم : "فيمتعوا فسوف يعلمون " بياء من تحت مضمومة، و"فسوف يعلمون" على معنى ذكر الغائب، وكذلك في الروم، وهي قراءة وقرأ أبي العالية، : "فتمتعوا" كالجماعة على الأمر "فسوف يعلمون" بالياء على ذكر الغائب، كقراءة الحسن أبي رافع، فيكون "يمتعوا" في قراءة أبي رافع في موضع نصب عطفا على "يكفروا" إن كانت اللام لام "كي"، ونصبا بالفاء في جواب الأمر إن كانت اللام لام أمر، ومعنى "التمتع" في هذه الآية: بالحياة الدنيا التي مصيرها إلى الفناء والزوال.