ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم
هذه مخاطبة للكفار الذين حرموا البحائر والسوائب وأحلوا ما في بطون الأنعام وإن كانت ميتة، يدل على ذلك قوله حكاية عنهم: وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء ، والآية تقتضي كل ما كان لهم من تحليل وتحريم، فإنه كله افتراء منهم، ومنه ما جعلوه في الشهور. وقرأ السبعة وجمهور الناس: "الكذب" بفتح الكاف والباء وكسر الذال، و "ما" مصدرية، فكأنه قال: لوصف ألسنتكم. وقرأ ، الأعرج وطلحة، وأبو معمر، : "الكذب" بخفض الباء على البدل من "ما". وقرأ بعض أهل والحسن الشام، ومعاذ بن جبل، : "الكذب" بضم الكاف والذال والباء، على صفة الألسنة. وقرأ وابن أبي عبلة مسلمة بن محارب: "الكذب" بفتح الباء بفتح الباء على أنه جمع كذاب ككتب وكتاب.
[ ص: 424 ] وقوله: هذا حلال إشارة إلى ميتة بطون الأنعام وكل ما أحلوا، وقوله: وهذا حرام إشارة إلى البحائر والسوائب وكل ما حرموا، وقوله: "لتفتروا على الله الكذب"، إشارة إلى قولهم في فواحشهم التي هي إحداها: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ،
ويحتمل أن يريد أنه كان شرعهم لاتباعهم سننا لا يرضاها الله افتراء عليه، لأن من شرع أمرا فكأنه قال لأتباعه: هذا هو الحق، وهذا مراد الله. ثم أخبرهم الله أن الذين يفترون على الله الكذب لا يبلغون الأمل، والفلاح: بلوغ الأمل، فطورا يكون في البقاء، كما قال الشاعر:
والمسي والصبح لا بقاء معه.
ويشبه أن هذه الآية من هذا المعنى، يقوي ذلك قوله: متاع قليل ، وقد يكون في نجح المساعي، ومنه قول عبيد:
أفلح بما شئت فقد يبلغ بالضـ ... ـضعف وقد يخدع الأريب
وقوله: متاع قليل إشارة إلى عيشهم في الدنيا، ولهم عذاب أليم بعد ذلك في الآخرة.
[ ص: 425 ] وقوله تعالى: وعلى الذين هادوا الآية، لما قص تبارك وتعالى على المؤمنين ما حرم عليهم أعلم أيضا بما حرم على اليهود; ليبين تبديلهم الشرع فيما استحلوا من ذلك وفيما حرموا من تلقاء أنفسهم. وقوله: ما قصصنا عليك إشارة إلى ما في سورة الأنعام من ذي الظفر والشحوم. وقوله: وما ظلمناهم أي: لم نضع العقوبة عليهم بتحريم تلك الأشياء عليهم في غير موضعها، بل هم طرقوا إلى ذلك، وجاء من تشبثهم بالمعاصي ما أوجب ذلك.
وقوله تعالى: ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة الآية. هذه آية تأنيس لجميع العالم، أخبر الله تعالى فيها أنه يغفر للتائب، والآية إشارة إلى الكفار الذين افتروا على الله، وفعلوا الأفاعيل المذكورة، فهم إذا تابوا من كفرهم بالإيمان، وأصلحوا بأعمال الإسلام، -غفر الله لهم، وتناولت هذه -بعد ذلك- كل واقع تحت لفظها من كافر وعاص، وقالت فرقة: الجهالة: العمد، والجهالة عندي في هذا الموضع ليست ضد العلم، بل هي تعدي الطور وركوب الرأس، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: وهي التي في قول الشاعر: "أو أجهل أو يجهل علي"،
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
والجهالة التي هي ضد العلم تصحب هذه الأخرى كثيرا، ولكن يخرج منها المتعمد، وهو الأكثر، وقلما يوجد في العصاة من لم يتقدم له علم بحظر المعصية التي تواقع. والضمير في "بعدها" عائد على التوبة.