[ ص: 426 ] قوله عز وجل:
إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون
لما كشف الله فعل اليهود وتحكمهم في شرعهم بذكر ما حرم عليهم أراد أن يبين بعدهم عن شرع إبراهيم والدعوى فيه، أن يصف حال إبراهيم ليبين الفرق بين حالهم وحال قريش أيضا.
والأمة في اللغة لفظة مشتركة تقع للخير، والعامة، والجمع الكثير من الناس، ثم يشبه الرجل العالم أو الملك أو المنفرد بطريقة وحده بالناس الكثير فيسمى أمة، وعلى هذا الوجه سمي إبراهيم عليه السلام أمة، قال رضي الله عنه: الأمة: معلم الخير، وقال في بعض أوقاته: إن ابن مسعود رضي الله عنه كان أمة قانتا، فقال له: معاذ بن جبل أبو قرة الكندي، أو فروة بن نوفل: ليس كذلك، إنما هو إبراهيم كان أمة قانتا، فقال: أتدري ما الأمة؟ هو معلم الخير، وكذلك كان يعلم الخير ويطيع الله ورسوله. وقال معاذ : سمي مجاهد إبراهيم أمة لانفراده بالإيمان في وقته مدة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وفي أنه قال البخاري لسارة: ليس على الأرض اليوم مؤمن غيري وغيرك، وقال بعض النحويين -أظنه : الأمة فعلة من أم يؤم، فهو كالهمزة والضحكة، أي: يؤتم به. أبا الحسن الأخفش-
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
"أمة" -على هذا- صفة، وعلى القول الأول اسم ليس بصفة. و "القانت": المطيع الدائم على العبادة، و"الحنيف": المائل إلى الخير والإصلاح، وكانت العرب تقول، لمن يختتن ويحج البيت: حنيفا، وحذف النون من "لم يك" لكثرة الاستعمال، كحذفهم من: لا أبال ولا أدر، وهو أيضا لشبه النون في حال سكونها حروف العلة لغنتها وخفتها وأنها قد تكون علامة وغير ذلك، فكأن "لم" هنا دخلت على "يكن" في [ ص: 427 ] حال الجزم، ولا تحذف النون إذا لم تكن ساكنة في نحو قوله تعالى: لم يكن الذين كفروا ولا تحذف في مثل هذا إلا في الشعر فقد جاءت محذوفة، وقوله: من المشركين مشير إلى حال تبرئ إبراهيم عليه السلام من حال مشركي العرب ومشركي اليهود، إذ كلهم ادعاه، ويلزم الإشراك اليهود من جهة تجسيمهم.
و"شاكرا" صفة لإبراهيم تابعة ما تقدم، و "الأنعم": جمع نعمة، و"اجتباه" معناه: تخيره، وباقي الآية بين.
وقوله تعالى: وآتيناه في الدنيا حسنة ، الحسنة: لسان الصدق وإمامته لجميع الخلق، هذا قول جميع المفسرين، وذلك أن كل أمة متشرعة فهي مقرة أن إيمانها إيمان إبراهيم، وأنه قدوتها، وأنه كان على الصواب. وقوله: لمن الصالحين بمعنى: المنعم عليهم، أي: من الصالحين في أحوالهم ومراتبهم، أو بمعنى أنه في الآخرة ممن يحكم له بحكم الصالحين في الدنيا، وهذا على أن الآية وصف حاليه في الدارين، ويحتمل أن يكون المعنى: في أعمال الآخرة، فعلى هذا وصف حالته في الأعمال الدنيوية والأخروية.
وقوله تعالى: ثم أوحينا إليك الآية. الوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم بهذا من جملة الحسنة التي آتاها الله إبراهيم عليه السلام، قال وأمر الفاضل باتباع المفضول لما تقدم إلى الصواب والعمل به، و"أن" في قوله: ابن فورك: أن اتبع مفسرة، ويجوز أن تكون مفعولة، و "الملة": الطريقة في عقائد الشرع، و"حنيفا" حال، والعامل فيه الفعلية التي في قوله: ملة إبراهيم ، ويجوز أن تكون حالا من الضمير المرفوع في "اتبع" قال : ولا يكون حالا من مكي إبراهيم" ; لأنه مضاف إليه، وليس كما قال; [ ص: 428 ] لأن الحال قد تعمل فيه حروف الخفض إذا عملت في ذي الحال، كقولك: مررت بزيد قائما.
وقوله تعالى: إنما جعل السبت ، أي: لم يكن من ملة إبراهيم، وإنما جعله الله فرضا عاقب به القوم المختلفين فيه، قاله ، وذلك أن ابن زيد موسى عليه السلام أمر بني إسرائيل أن يجعلوا من الجمعة يوما مختصا بالعبادة، وأمرهم أن يكون الجمعة، فقال جمهورهم: بل يكون يوم السبت لأن الله فرغ فيه من خلق مخلوقاته، وقال غيرهم: بل نقبل ما أمر الله به موسى عليه السلام، فراجعهم الجمهور، فتابعهم الآخرون، فألزمهم الله يوم السبت إلزاما قويا عقوبة منه لهم، فلم يكن منهم ثبوت، بل عصوا فيه وتعدوا فأهلكهم.
وقرأ : "إنما أنزلنا السبت"، وهي قراءة الأعمش ، وقرأ ابن مسعود أبو حيوة : "جعل" بفتح الجيم والعين، وورد في الحديث أن اليهود والنصارى اختلفوا في اليوم الذي يختص من الجمعة، فأخذ هؤلاء السبت، وهؤلاء الأحد، فهدانا الله نحن إلى يوم الجمعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فليس الاختلاف [ ص: 429 ] المذكور في الآية هو الاختلاف الذي في الحديث، وباقي الآية وعيد بين. "فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه"،