فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا
الضمير في قوله أولاهما عائد على قوله مرتين وعبر عن الشر بـ (الوعد) لأنه قد صرح بذكر المعاقبة، وإذا لم يجئ (الوعد) مطلقا فجائز أن يقع في الشر.
وقرأ ، علي بن أبي طالب "عبيدا"، واختلف الناس في العبيد المبعوثين وفي صورة الحال اختلافا شديدا متباعدا. عيونه أن بني إسرائيل عصوا وقتلوا والحسن بن أبي الحسن: زكرياء عليه السلام فغزاهم سنحاريب ملك بابل، كذا قال ، ابن إسحاق . وقال وابن جبير رضي الله عنهما: غزاهم ابن عباس جالوت من أهل الجزيرة، وروي عن أنه قال في حديث طويل: غزاهم آخرا ملك اسمه عبد الله بن الزبير خردوش، وتولى قتلهم على دم يحيى بن زكريا قائد لخردوش اسمه هورزاذان، وكف عن بني إسرائيل وسكن برعاية دم يحيى بن زكريا عليهما السلام، وقيل: غزاهم أولا صخابين ملك رومة، وقيل: بختنصر، وروي أنه دخل قبل في جيش من الفرس وهو خامل يسير في مطبخ الملك، فاطلع من جور بني إسرائيل على ما لم تعلمه الفرس ; لأنه كان يداخلهم، فلما انصرف الجيش ذكر ذلك للملك الأعظم، فلما كان بعد مدة جعله الملك رئيس جيش وبعثه، فخرب بيت المقدس وقتلهم وجلاهم، ثم انصرف فوجد الملك قد مات فملك موضعه، واستمرت حاله حتى ملك الأرض بعد ذلك.
وقالت فرقة: إنما غزاهم بختنصر في المرة الأخيرة حين عصوا وقتلوا يحيى بن [ ص: 442 ] زكريا عليهما السلام، وصورة قتله أن الملك أراد أن يتزوج بنت امرأته، فنهاه يحيى عليه السلام عن ذلك، فعز ذلك على امرأته، فزينت بنتها وجعلتها تسقي الملك الخمر، وقالت لها: إذا راودك الملك عن نفسك فتمنعي حتى يعطيك الملك ما تتمني، فإذا قال لك: تمني علي ما أردت، فقولي له: رأس يحيى بن زكريا، ففعلت الجارية ذلك، فردها الملك مرتين، وأجابها في الثالثة، فجيء بالرأس في طست ولسانه يتكلم ويقول: لا تحل لك، وجرى دم يحيى عليه السلام فلم ينقطع، فجعل الملك عليه التراب حتى ساوى سور المدينة والدم ينبعث، فلما غزاهم الملك الذي بعث الله عليهم -بحسب الخلاف فيه- قتل منهم على الدم حتى سكن بعد قتل سبعين ألفا. هذا مقتضى هذا الخبر، وفي بعض رواياته زيادة ونقص، فروت فرقة أن أشعياء وعظهم وذكرهم الله ونعمه في مقام طويل نصه ، وذكر أشعياء في آخره الطبري محمدا صلى الله عليه وسلم وبشر به، فابتدره بنو إسرائيل ففر منهم، فلقي شجرة فتفلقت له حتى دخلها فالتأمت عليه، فعرض الشيطان عليهم هدبة من ثوبه، فأخذوا منشارا فنشروا الشجرة وقطعوه في وسطها فقتلوه، فحينئذ بعث الله عليهم في المرة الأخيرة.
وذكر عن الزهراوي قصصا أن قتادة زكريا هو صاحب الشجرة، وأنهم قالوا لما حملت مريم قالوا: ضيع بنت سيدنا حتى زنت، فطلبوه فهرب منهم حتى دخل في الشجرة فنشروه. وروت فرقة أن بختنصر كان حفيد سنحاريب الملك الأول، وروت فرقة أن الذي غزاهم آخرا هو سابور ذو الأكتاف. وقال أيضا رضي الله عنهما: سلط الله عليهم حين عادوا ثلاثة أملاك من ابن عباس فارس: سندابادان وشهريازان وآخر. وقال : إنما جاءهم في الأولى عسكر من مجاهد فارس فجاس خلال الديار وتقلب، ولكن لم يكن قتال ولا قتل في بني إسرائيل ثم انصرفت عنهم الجيوش، وظهروا وأمدوا بالأموال والبنين حتى عصوا وطغوا، فجاءهم في المرة الثانية من قتلهم وغلبهم على بيضتهم وأهلكهم آخر الدهر.
وقوله تعالى: فجاسوا خلال الديار ، وهي المنازل والمساكن، وقوله تعالى: وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة يرد على قول : إنه لم يكن في المرة [ ص: 443 ] الأولى غلبة ولا قتال، وهل يدخل المسجد إلا بعد غلبة وقتال؟ وقد قال مؤرخ. جاسوا خلال الأزقة، وقد ذكر مجاهد في هذه الآية قصصا طويلا، منه ما يخص الآيات، وأكثره لا يخص، وهذه المعاني ليست بالثابتة فلذلك اختصرتها. الطبري
وقوله تعالى: "بعثنا" يحتمل أن يكون الله بعث إلى ملك تلك الأمة رسولا يأمره بغزو بني إسرائيل فتكون البعثة بأمر، ويحتمل أن يكون عبر بالبعث عما ألقي في نفس الملك الذي غزاهم. وقرأ الناس: "فجاسوا" بالجيم، وقرأ أبو السمال: "فحاسوا" بالحاء، وهما بمعنى الغلبة والدخول قسرا، ومنه الحواس، وقيل لأبي السمال: إنما القراءة "جاسوا" بالجيم، فقال: جاسوا وحاسوا واحد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
فهذا يدل على تخير لا على رواية، ولهذا لا تجوز الصلاة بقراءته وقراءة نظرائه، وقرأ الجمهور: "خلال"، وقرأ "خلل"، ونصبه في الوجهين على الظرف. الحسن بن أبي الحسن:
وقوله تعالى: ثم رددنا لكم الكرة عليهم الآية عبارة عما قال الله لبني إسرائيل في التوراة، وجعل "رددنا" موضع "نرد" إذ وقت إخبارهم لم يقع الأمر بعد، لكنه لما كان وعد الله في غاية الثقة أنه يقع عبر عن مستقبله بالماضي، وهذه الكرة هي بعد الجلوة الأولى كما وصفنا، فغلبت بنو إسرائيل على بيت المقدس وملكوا فيه، وحسنت حالهم برهة من الدهر، وأعطاهم الله الأموال والأولاد، وجعلهم إذا نفروا إلى أمر أكثر الناس، قال : وصيرناكم أكثر عدد نافر منهم. قال الطبري : كانوا أكثر نفيرا في زمن قتادة داود عليه السلام، و "نفيرا" يحتمل أن يكون جمع نفر، ككلب وكليب، وعبد وعبيد، ويحتمل أن يكون فعيلا بمعنى فاعل، أي: وجعلناكم أكثر نافرا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وعندي أن النفير اسم للجمع الذي ينفر، سمي بالمصدر، وقد قال تبع الحميري:
فأكرم بقحطان من والد ... وبالحميريين أكرم نفيرا
[ ص: 444 ] وقالوا: "لا في العير ولا في النفير"، يريدون جمع قريش الخارج من مكة إلى بدر .
فلما قال الله تعالى لهم: إني سأفعل بكم هكذا عقب ذلك بوصيتهم في قوله سبحانه: إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم والمعنى: إنكم بعملكم تؤخذون، لا يكون ذلك ظلما ولا تشرعا إليكم، و وعد الآخرة معناه: من المرتين المذكورتين، وقوله تعالى: ليسوءوا وجوهكم ، اللام لام أمر، وقيل: المعنى بعثناهم ليسوؤوا، فهي لام "كي" كلها، والضمير للعباد أولي البأس الشديد، وقرأ الجمهور: "ليسوءوا" بالياء، جمع وهمزة بين واوين، وقرأ -في رواية عاصم -، أبي بكر : "ليسوء" بالياء وهمزة مفتوحة على الإفراد، وقرأ وابن عامر -وهي مروية عن الكسائي رضي الله عنه: "لنسوء" بنون العظمة، وقرأ علي بن أبي طالب "لنسوأن" بنون خفيفة، وهي لام الأمر، وقرأ أبي بن كعب: رضي الله عنه: "ليسوأن"، بفتح اللام وهي لام القسم- والفاعل الله عز وجل، وفي مصحف علي بن أبي طالب : "ليسيء" بياء مضمومة بغير واو، وفي مصحف أبي بن كعب "ليسوء وجهكم" على [ ص: 445 ] الإفراد، وخص بالذكر الوجوه لأنها المواضع الدالة على ما بالإنسان من خير أو شر. و"المسجد": مسجد أنس: بيت المقدس. و "تبر" معناه: أفسد وأهلك بغشم، وقوله: ما علوا أي: ما تغلبوا عليه من الأقطار وملكوه من البلاد، وقيل: "ما" ظرفية، والمعنى: مدة علوهم وغلبتهم على البلاد. و "تبر" تحريره: رد الشيء فتاتا كتبر الذهب والحرير ونحوه، وهو تفتيته.