من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا
معنى هذه الآية أن كل أحد إنما يحاسب عن نفسه لا عن غيره، وروي أن سببها أن الوليد بن المغيرة المخزومي قال لأهل مكة : اكفروا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وإثمكم علي، فنزلت هذه الآية، أي: إن الوليد لا يحمل آثامكم، وإنما إثم كل [ ص: 452 ] واحد عليه. وقالت فرقة: نزلت الإشارة في الهدى إلى والإشارة بالضلال إلى أبي سلمة بن عبد الأسد، الوليد بن المغيرة.
و"وزر" معناه: حمل، و"الوزر": الثقل، ومنه: وزير السلطان، أي: الذي يحمل ثقل دولته، وبهذه الآية نزعت أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها في الرد على من قال: إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه، ونكتة ذلك المعنى إنما هي أن التعذيب إنما يقع إذا كان البكاء من سنة الميت وتسببه، كما كانت عائشة العرب تفعل.
وقوله تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ، قالت فرقة هي الجمهور: هذا في حكم الدنيا، أي إن ، وقالت فرقة: هذا عام في الدنيا والآخرة. الله لا يهلك أمة بعذاب إلا من بعد الرسالة إليهم والإنذار
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وتلخيص هذا المعنى أن مقصد الآية في هذا الموضع الإعلام بعبادة الله تعالى مع الأمم في الدنيا، وبهذا يقرب الوعيد من كفار مكة . ويؤيد هذا ما يجيء بعد من وصفه ما يكون عند إرادة الله إهلاك قرية، ومن إعلامه بكثرة ما أهلك من القرون، ومع هذا فالظاهر من كتاب الله تعالى في غير هذا الموضع، ومن النظر، أن الله تعالى لا يعذب [ ص: 453 ] في الآخرة إلا بعد بعثة الرسل، كقوله تعالى: كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى ، وظاهر "كلما" الحصر، وكقوله تعالى: وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ، وأما من جهة النظر فإن بعثة آدم عليه السلام بالتوحيد، وبعث المعتقدات في بنيه، ونصب الأدلة الدالة على الصانع، مع سلامة البصر، يوجب على كل أحد من العالم الإيمان واتباع شريعة الله، ثم تجدد ذلك في مدة نوح عليه السلام بعد غرق الكفار، وهذه الآية أيضا يعطي احتمال ألفاظها نحو هذا، ويجوز مع الفرض وجود قوم لم تصلهم رسالة، ومنهم الذين قد قدر وجودهم بعض أهل العلم، وأما ما روي من أن الله تعالى يبعث إليهم يوم القيامة وإلى المجانين والأطفال، فحديث لم يصح، ولا يقتضيه ما تقضيه الشريعة من أن الآخرة ليست دار تكليف. أهل الفترات
وقوله تعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية الآية. في مصحف "بعثنا أكابر مجرميها"، و "القرية": المدينة المجتمعة، مأخوذ من: قريت الماء في الحوض، إذا جمعته، وليست من "قرأ" الذي هو مهموز، وإن كان فيهما جميعا معنى الجمع. وقرأ الجمهور: أمرنا" على صيغة الماضي، من: أمر ضد نهى، وقرأ أبي ، نافع -في بعض ما روي عنهما-: "آمرنا" بمد الهمزة، بمعنى: كثرنا، ورويت عن وابن كثير ، وهي قراءة الحسن علي بن أبي طالب، بخلاف عنه-، وعن وابن عباس ، وقرأ بها الأعرج ابن أبي إسحاق، وتقول العرب : "أمر القوم" إذا كثروا، وآمرهم الله تعالى فيتعدى بالهمزة. وقرأ بخلاف-: "أمرنا" بتشديد الميم، وهي قراءة أبو عمرو أبي عثمان النهدي، وأبي العالية، رضي الله عنهما، ورويت عن وابن عباس رضي الله عنه. علي بن أبي طالب
وقال : القراءة الأولى معناها: أمرناهم بالطاعة فعصوا وفسقوا فيها، وهو قول الطبري ، ابن عباس ، والثانية معناها: كثرناهم، والثالثة هي من الإمارة، أي: ملكناهم على الناس. وابن جبير
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
قال "الجيد في "أمرنا" أن تكون بمعنى: كثرنا، يتعدى الفعل [ ص: 454 ] بلفظ غير متعد، كما تقول: رجع ورجعته، وشترت عينه وشترتها، فتقول: أمر القوم وأمرهم الله، أي كثرهم، و"آمرنا" مبالغة في "أمرنا" بالهمزة، و "أمرنا" مبالغة فيه بالتضعيف، ولا وجه لكون "أمرنا" من الإمارة; لأن رياستهم لا تكون إلا واحدا بعد واحد، والإهلاك إنما يكون في مدة واحد منهم. أبو علي الفارسي:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وينفصل عن هذا الذي قاله بأن الأمر وإن كان يعم المترف وغيره، فخص المترف بالذكر إذ فسقه هو المؤثر في فساد القرية وهم عظم الضلالة وسواهم تبع لهم. وأما "أمرنا" من الإمارة فمتوجه على وجهين: أحدهما أن لا يريد إمارة الملك، بل كونهم يأمرون ويؤتمر لهم; فإن أبو علي العرب تقول لمن يأمر الإنسان -وإن لم يكن ملكا-: هو أمير، ومنه قول الأعشى :
إذا كان هادي الفتى في البلا ... د صدر القناة أطاع الأميرا
ومنه قول معاوية رضي الله عنه حين أمره بالاستقادة من لطمة لعمر إن علي أميرا لا أقطع أمرا دونه، أراد عمرو بن العاص: أباه، وأراد معاوية الأعشى أنه إذا شاخ الإنسان وعمي واهتدى بالعصا أطاع كل من يأمره، ومنه قول الآخر:
والناس يلحون الأمير إذ هم ... خطئوا الصواب ولا يلام المرشد
[ ص: 455 ] وأيضا فلو أراد إمارة الملك في الآية لحسن المعنى; لأن الأمة إذا ملك الله عليها مترفا ففسق، ثم ولي مثله بعده، ثم كذلك، عظم الفساد وتوالى الكفر واستحقوا العذاب فنزل بهم على الرجل الأخير من ملوكهم، وقرأ ، الحسن "أمرنا" بكسر الميم، وحكاها ويحيى بن يعمر: النحاس عن رضي الله عنهما، ولا أتحقق وجها لهذه القراءة; إلا إن كان "أمر القوم" يتعدى بلفظه، فإن ابن عباس العرب تقول: "أمر بنو فلان" إذا كثروا، ومنه قول لبيد:
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا ... يوما يصيروا للقل والنفد
ومنه: (لقد أمر أمر ابن أبي كبشة )، ورد هذه القراءة، وقد حكي "أمر" متعديا عن الفراء و "المترف" الغني من المال المتنعم، والترفة: النعمة، وفي مصحف أبي زيد الأنصاري، : "قرية بعثنا أكابر مجرميها فمكروا فيها"، وقوله تعالى: أبي بن كعب فحق عليها القول أي وعيد الله لها الذي قاله رسولهم. و"التدمير": الإهلاك مع طمس الآثار وهدم البناء، ومنه قول الفرزدق:
وكان لهم كبكر ثمود لما ... رغا دهرا فدمرهم دمارا
[ ص: 456 ] وقوله تعالى: وكم أهلكنا من القرون الآية، "كم" في موضع نصب بـ "أهلكنا"، وهذا الذكر لكثرة من أهلك الله من القرون مثال لقريش ووعيد، أي: لستم ببعيد مما حصلوا فيه من العذاب إذا أنتم كذبتم نبيكم، واختلف الناس في القرن -فقال عن النبي صلى الله عليه وسلم: أربعون، وقيل غير هذا مما هو قريب منه، وقال ابن سيرين القرن مائة وعشرون سنة، وقالت طائفة: القرن مائة سنة، وهذا هو الأصح الذي يعضده الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: عبد الله بن أبي أوفى: "خير الناس قرني" . محمد بن القاسم في ختنه عبد الله بن بسر قال: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسي وقال: "سيعيش هذا الغلام قرنا"، قلت: كم القرن؟ قال: "مائة سنة"، قال وروى محمد بن القاسم: فما زلنا نعد له حتى أكمل مائة سنة، ومات رحمه الله، والباء في قوله تعالى: "بربك" زائدة، والتقدير: كفى بربك، وهذه الباء إنما تجيء في الأغلب في مدح أو ذم، وكأنها تعطي معنى: اكتف بربك، أي: ما أكفاه في هذا، وقد تجيء "كفى" بدون باء، كقول الشاعر:
[ ص: 457 ]
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
وكقول الآخر:
ويخبرني عن غائب المرء هديه ... كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا