ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما
قرأ الجمهور: "مرحا" بفتح الراء، مصدر من: مرح يمرح إذا تبختر مسرورا بدنياه مقبلا على راحته، فهذا هو المرح، فنهي الإنسان في هذه الآية أن يكون مشيه في الأرض على هذا الوجه، ثم قيل له: إنك لن تقطع الأرض وتمسحها بمشيك، ولن تبلغ أطوال الجبال فتنالها طولا، فإذا كنت لا تستوي في الأرض بمشيك فقصرك نفسك على ما يوجبه الحق من المشي والتصرف أولى وأحق. وخوطب النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية والمراد الناس كلهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وإقبال الإنسان على الصيد ونحوه تنزها دون حاجة إلى ذلك داخل في هذه الآية، وأما الرجل يستريح في اليوم النادر والساعة من يومه فيجم فيها نفسه في التفرج والراحة [ ص: 481 ] ليستعين بذلك على شغل من البر كقراءة علم أو صلاة، فليس ذلك بداخل في هذه الآية رضي الله عنهما
وقرأت فرقة -فيما حكى "مرحا" بكسر الراء على بناء اسم الفاعل، وهذا المعنى يترتب على هذه القراءة، ولكن يحسن معها معنى آخر ذكره يعقوب-: مع القراءة الأولى، وهو بهذه القراءة أليق، وهو أن قوله: الطبري إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا أراد بذلك: أيها المرح المختال الفخور، لا تخرق الأرض، ولا تطاول الجبال بفخرك وكبرك، وذهب بالألفاظ إلى هذا المعنى، ويحسن ذلك مع القراءة بكسر الراء من المرح; لأن الإنسان نهي حينئذ عن التخلق بالمرح في كل أوقاته; إذ المشي في الأرض لا يفارقه، فلم ينه إلا عن يكون مرحا، وعلى القراءة الأخرى إنما نهي من ليس بمرح عن أن يمشي في بعض أوقاته مرحا، فيترتب في المرح -بكسر الراء- أن يؤخذ بمعنى المتكبر المختال.
وخرق الأرض: قطعها، والخرق: الواسع من الأرض، ومنه قول الشاعر:
وخرق تجاوزت مجهوله ... بوجناء خرق تشكى الكلالا
ويقال لثقب الأرض: خرق، وليس هذا المعنى في الآية، ومنه قول رؤبة بن العجاج:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق
[ ص: 482 ] وقرأ الجراح، والأعرابي: "لن تخرق الأرض" بضم الراء، وقال : لا تعرف هذه اللغة. أبو حاتم
وقوله تعالى: كل ذلك كان سيئه عند ربك . قرأ ، ابن كثير ، ونافع وأبو عمرو، ، وأبو جعفر : "سيئة"، وقرأ والأعرج ، عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، والحسن "سيئه" على إضافة "سيئ" إلى الضمير، والإشارة -على القراءة الأولى- إلى ما تقدم ذكره مما نهي عنه، كقول: أف، وقذف الناس، والمرح، وغير ذلك، والإشارة -على القراءة الثانية- إلى جميع ما ذكر في هذه الآيات من بر ومعصية، ثم اختص ذكر السيئ منه بأنه مكروه عند الله تعالى، فأما من قرأ: "سيئه" بالإضافة إلى الضمير فإعراب قراءته بين و"سيئ" اسم "كان"، و"مكروها" خبره، وأما من قرأ: "سيئة" فهي الخبر لـ "كان". واختلف الناس في إعراب "مكروها" فقالت فرقة: هو خبر ثان لـ "كان" حمله على لفظ "كل"، و "سيئة" محمول على المعنى في جميع هذه الأشياء المذكورة قبل، وقال بعضهم: هو نعت لـ "سيئة" لأنه لما كان تأنيثها غير حقيقي جاز أن توصف بمذكر. ومسروق:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وضعفه وقال: إن المؤنث إذا ذكر فإنما ينبغي أن يكون ما بعده وفقه، وإنما التساهل أن يتقدم الفعل المسند إلى المؤنث وهو في صيغة ما يسند إلى المذكر، ألا ترى أن قول الشاعر: أبو علي الفارسي،
فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها
[ ص: 483 ] مستقبح عندهم؟ ولو قال قائل: أبقل أرض لم يكن قبيحا. قال : ولكن يجوز في قوله تعالى: "مكروها" أن يكون بدلا من قوله: "سيئه"، قال: ويجوز أن يكون حالا من الذكر الذي في قوله: "عند ربك"، ويكون قوله: أبو علي عند ربك في موضع الصفة لـ "سيئه". وقرأ "كان سيئاته"، وروي عنه "كان سيئات" بغير هاء، وروي عنه "كان خبيثه". وذهب عبد الله بن مسعود: إلى أن هذه النواهي كلها معطوفة على قوله أولا: الطبري وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وليس ذلك بالبين
قوله تعالى: ذلك مما أوحى إليك ربك الآية. الإشارة بـ "ذلك" إلى هذه الآداب التي تضمنتها هذه الآيات المتقدمة، أي: هذه من الأفعال المحكمة التي تقتضيها حكمة الله تبارك وتعالى في عباده وخلقه لهم محاسن الأخلاق. و"الحكمة": قوانين المعاني المحكمة والأفعال الفاضلة، ثم عطف قوله تعالى: ولا تجعل على ما تقدم من النواهي. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد كل من سمع الآية من البشر، و "المدحور": المهان المبعد.
وقوله تعالى: أفأصفاكم ربكم بالبنين الآية، خطاب للعرب التي كانت تقول: الملائكة بنات الله، فقررهم الله تعالى على هذه الحجة، أي: أنتم أيها البشر لكم الأعلى من النسل ولله البنات؟ فلما ظهر هذا التباعد الذي في قولهم عظم الله عليهم فساد ما يقولونه وشنعته، ومعناه: عظيما في المنكر والوخامة. و "أصفاكم" معناه: جعلكم أصحاب الصفوة. وحكى عن الطبري عن بعض أهل العلم أنه قال: نزلت هذه الآية في اليهود لأنهم قالوا هذه المقالة، من أن الملائكة بنات الله. قتادة
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والأول هو الذي عليه جمهور المفسرين.