وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا
هذه الآية تحتمل معنيين: أحدهما أن الله تعالى أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يحميه من الكفرة; أهل مكة الذين كانوا يؤذونه في وقت قراءته القرآن وصلاته في المسجد، ويريدون مد اليد إليه، وأحوالهم في هذا المعنى مشهورة. والمعنى الآخر أنه تعالى أعلمه أنه يجعل بين الكفرة وبين فهم ما يقرؤه محمد صلى الله عليه وسلم حجابا، فالآية -على هذا التأويل- في معنى التي بعدها، وعلى التأويل الأول هما آيتان لمعنيين.
وقوله: "مستورا" أظهر ما فيه أن يكون نعتا للحجاب، أي مستورا عن أعين الخلق، فلا يدركه أحد برؤية كسائر الحجب، وإنما هو من قدرة الله وكفايته وإضلاله بحسب التأويلين المذكورين، وقيل: التقدير: مستورا به، على حذف العائد، وقال الأخفش: "مستورا" بمعنى: ساتر، كمشؤم وميمون، بمعنى: شائم ويأمن.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا -لغير داعية إليه- تكلف، وليس مثاله بمسلم. وقيل: هو على جهة المبالغة، كما قالوا: شعر شاعر، وهذا معترض بأن المبالغة أبدا إنما تكون باسم الفاعل ومن اللفظ الأول، فلو قال حجابا حاجبا لكان التنظير صحيحا.
وقوله تعالى: وجعلنا على قلوبهم أكنة الآية. "الأكنة": جمع كنان، وهو ما غطى الشيء، ومنه كنانة النبل، و "الوقر": الثقل في الأذن المانع من السمع، فهو الصمم، وهذه كلها استعارات للإضلال الذي حفهم الله به، فعبر عن كثرة ذلك وعظمه بأنهم بمثابة من غطي قلبه وصمت أذنه.
وقوله تعالى: وإذا ذكرت ربك الآية، يريد: إذا جاءت مواضع التوحيد في القرآن أثناء قراءتك فر كفار مكة من سماع ذلك إنكارا له واستبشاعا; إذ فيه رفض آلهتهم واطراحها، وقال بعض العلماء: إن ملأ قريش دخلوا على أبي طالب يزورونه، فدخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ ومر بالتوحيد، ثم قال: يا معشر قريش : قولوا: "لا إله [ ص: 488 ] إلا الله" تملكون بها العرب، وتدين لكم العجم، فولوا ونفروا، فنزلت الآية.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وأن تكون الآية وصف حال الفارين عنه في وقت توحيده في قراءته أبين وأجرى مع اللفظ.
وقوله تعالى: "نفورا" يصح أن يكون مصدرا في موضع الحال، ويصح أن يكون جمع نافر، كشاهد وشهود; لأن فعولا من أبنية فاعل في الصفات، ونصبه على الحال، أي: نافرين، وقوله تعالى: أن يفقهوه ، "أن" نصب على المفعول، أي: كراهة أن، أو منع أن، والضمير في "يفقهوه" عائد على القرآن. وحكى عن فرقة أنها قالت: إنما عنى بقوله: الطبري ولوا على أدبارهم نفورا الشياطين، وأنهم يفرون من قراءة القرآن.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
يريد أن المعنى يدل عليهم وإن لم يجر لهم ذكر في اللفظ، وهذا نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم: . "إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان له خصاص"
وقوله تعالى: نحن أعلم بما يستمعون به الآية. هذا كما تقول: فلان يستمع بحرص وإقبال، أو بإعراض وتغافل واستخفاف، فالضمير في "به" عائد على "ما" وهي بمعنى "الذي"، والمراد بالذي ما ذكرناه من الاستخفاف والإعراض، فكأنه قال: نحن أعلم بالاستخفاف والاستهزاء الذي يستمعون به، أي هو ملازمهم، يفضح الله بهذه الآية سرهم، والعامل في "إذ" الأولى وفي المعطوفة عليها "يستمعون" الأولى. وقوله تعالى: وإذ هم نجوى وصفهم بالمصدر، كما قالوا: قوم رضى وعدل، وقيل: [ ص: 489 ] المراد بقوله تعالى: وإذ هم نجوى اجتماعهم في دار الندوة، ثم انتشرت عنهم.
وقوله تعالى: "مسحورا" الظاهر فيه أن يكون من السحر، فشبهوا الخبال الذي عنده بزعمهم وأقواله الوخيمة برأيهم بما يكون من المسحور الذي قد خبل السحر عقله وأفسد كلامه. وتكون الآية -على هذا- شبيهة بقول بعضهم: "به جنة" ونحو هذا، وقال : "مسحورا" معناه: ذا سحر، وهي الرئة، يقال لها: "سحر وسحر" بضم السين، ومنه أبو عبيدة رضي الله عنها: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري". عائشة ومنه قولهم للجبان "انتفخ سحره" لأن الجازع تنتفخ رئته، فكأن مقصد الكفار بهذا التشبيه على أنه بشر، أي: ذا رئة، قال: ومن هذا يقال لكل من يأكل ويشرب من آدمي وغيره: "مسحور ومسحر"، ومنه قول قول امرئ القيس :
ونسحر بالطعام وبالشراب
وقول لبيد:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسحر
[ ص: 490 ] ومنه: السحور، وهو إلى هذه اللفظة أقرب منه إلى السحر، ويشبه أن يكون من السحر كالصبوح من الصباح، والآية التي بعد هذا تقوي أن اللفظة التي في الآية من السحر بكسر السين، لأن (......) حينئذ في قولهم ضرب مثل له، وأما على أنها من السحر الذي هو الرئة، ومن التغذي وأن تكون الإشارة إلى أنه بشر، فلم يضرب له في ذلك مثل، بل هي صفة حقيقة له.