أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون
لفظة "أحل" تقتضي أنه كان محرما قبل ذلك، و"ليلة" نصب على الظرف، وهي [ ص: 449 ] اسم جنس فلذلك أفردت، ونحوه قول عامر الرامي الحضرمي المحاربي :
هم المولى وقد جنفوا علينا وإنا من عداوتهم لزور
و"الرفث" كناية عن الجماع، لأن الله تعالى كريم يكنى، قاله ، ابن عباس . وقرأ والسدي "الرفوث". و"الرفث" في غير هذا ما فحش من القول، ومنه قول الشاعر: ابن مسعود .................... عن اللغا ورفث التكلم
وقال أبو إسحاق : "الرفث" كل ما يأتيه الرجل مع المرأة من قبلة ولمس وجماع.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
أو كلام في هذه المعاني، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: . من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من خطاياه كيوم ولدته أمه
وسبب هذه الآية فيما قال ، وغيره: أن جماعة من المسلمين اختانوا [ ص: 450 ] أنفسهم، وأصابوا النساء بعد النوم، أو بعد صلاة العشاء على الخلاف. منهم ابن عباس ، جاء إلى امرأته فأرادها فقالت له: قد نمت فظن أنها تعتل فوقع بها، ثم تحقق أنها قد كانت نامت، وكان الوطء بعد نوم أحدهما ممنوعا. وقال عمر بن الخطاب : جرى له هذا في جارية له، قالوا: فذهب السدي فاعتذر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجرى نحو هذا عمر لكعب بن مالك الأنصاري ، فنزل صدر الآية فيهم، فهي ناسخة للحكم المتقرر في منع الوطء بعد النوم.
وحكى النحاس ، أن ومكي نام، ثم وقع بامرأته، وهذا عندي بعيد على عمر رضي الله عنه. وروي أن عمر صرمة بن قيس ، ويقال: صرمة بن مالك ، ويقال: أبو أنس قيس بن صرمة نام قبل الأكل فبقي كذلك دون أكل حتى غشي عليه في نهاره [ ص: 451 ] المقبل، فنزل فيه من قوله تعالى: وكلوا واشربوا .
واللباس: أصله في الثياب، ثم شبه التباس الرجل بالمرأة وامتزاجهما وتلازمهما بذلك، كما قال : النابغة
إذا ما الضجيع ثنى جيدها تداعت فكانت عليه لباسا
لبست أناسا فأفنيتهم وأفنيت بعد أناس أناسا
وإنما سميت هذه الأفعال اختيانا لعاقبة المعصية وجزائها، فراكبها يخون نفسه ويؤذيها.
و تاب عليكم معناه: من المعصية التي واقعتموها، وعفا عنكم يحتمل أن يريد عن المعصية بعينها، فيكون ذلك تأكيدا وتأنيسا بزيادة على التوبة، ويحتمل أن يريد عفا عما كان ألزمكم من اجتناب النساء فيما يؤتنف بمعنى تركه لكم. كما تقول: شيء معفو عنه أي متروك.
قال ، وغيره: "باشروهن" كناية عن الجماع مأخوذ من البشرة، وقد ذكرنا لفظة الآن في ماضي قصة البقرة، ابن عباس وابتغوا ما كتب الله لكم ، قال ، [ ص: 452 ] ابن عباس ، ومجاهد والحكم بن عتيبة ، ، وعكرمة ، والحسن ، والسدي ، والربيع ، معناه: ابتغوا الولد. وروي أيضا عن والضحاك وغيره أن المعنى وابتغوا ليلة القدر، وقيل: المعنى: ابتغوا الرخصة والتوسعة. قاله ابن عباس ، وهو قول حسن. وقرأ قتادة -فيما روي عنه- الحسن : "واتبعوا" من الإتباع، وجوزها ومعاوية بن قرة ، ورجح ابتغوا من الابتغاء. ابن عباس
وكلوا واشربوا حتى يتبين نزلت بسبب صرمة بن قيس ، و"حتى" غاية للتبين، ولا يصح أن يقع التبين لأحد ويحرم عليه الأكل إلا وقد مضى لطلوع الفجر قدر، و"الخيط" استعارة وتشبيه لرقة البياض أولا ورقة السواد الحاف به، ومن ذلك قول أبي داود
فلما بصرن به غدوة ولاح من الفجر خيط أنارا
وروي عن ، وغيره من الصحابة أن الآية نزلت إلا قوله: سهل بن سعد من الفجر فصنع بعض الناس خيطين أبيض وأسود، فنزل قوله تعالى: من الفجر ، وروي أنه كان بين طرفي المدة عام من رمضان إلى رمضان تأخر البيان إلى وقت الحاجة. وعدي بن حاتم جعل خيطين على وساده وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ، وروي أنه قال له: إن وسادك لعريض ، ولهذه الألفاظ تأويلان. إنك لعريض القفا
واختلف في فقال الجمهور -وبه أخذ الناس، ومضت عليه الأمصار والأعصار، ووردت به الأحاديث الصحاح -ذلك الفجر المعترض الآخذ في الأفق يمنة ويسرة، فبطلوع أوله في الأفق يجب الإمساك وهو مقتضى حديث الحد الذي بتبينه يجب الإمساك، ابن مسعود وسمرة بن جندب .
[ ص: 454 ] وروي عن ، عثمان بن عفان ، وحذيفة بن اليمان وابن عباس وطلق بن علي ، ، وعطاء بن أبي رباح ، وغيرهم: أن الإمساك يجب بتبين الفجر في الطرق، وعلى رؤوس الجبال، وذكر والأعمش أنه قال: تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو النهار إلا أن الشمس لم تطلع حذيفة ، وروي عن عن رضي الله عنه أنه صلى الصبح بالناس ثم قال: "الآن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود . قال علي بن أبي طالب : "ومما قادهم إلى هذا القول أنهم يرون أن الصوم إنما هو في النهار، والنهار عندهم من طلوع الشمس لأن آخره غروبها، فكذلك أوله طلوعها". الطبري
وحكى ، عن النقاش أن النهار من طلوع الفجر، ويدل على ذلك قول الله تبارك وتعالى: الخليل بن أحمد وأقم الصلاة طرفي النهار .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والقول في نفسه صحيح وقد ذكرت حجته في تفسير قوله تعالى: واختلاف الليل والنهار وفي الاستدلال بهذه الآية نظر. فعليه عند ومن أكل وهو يشك: هل طلع [ ص: 455 ] الفجر أم لم يطلع؟ القضاء. مالك
وقوله تعالى: ثم أتموا الصيام إلى الليل أمر يقتضي الوجوب، و"إلى" غاية، إذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها فهو داخل في حكمه، كقولك اشتريت الفدان إلى حاشيته، وإذا كان من غير جنسه كما تقول: اشتريت الفدان إلى الدار لم يدخل في المحدود ما بعد إلى.
ورأت رضي الله عنها أن قوله: عائشة إلى الليل يقتضي وقد واصل النبي صلى الله عليه وسلم ونهى الناس عن الوصال، وقد واصل جماعة من العلماء. النهي عن الوصال،
وقد تقدم أن هذه الآية نسخت الحكم الذي في قوله: كما كتب على الذين من قبلكم على قول من رأى التشبيه في الامتناع من الوطء والأكل بعد النوم في قول بعضهم، وبعد صلاة العشاء في قول بعضهم.
والليل الذي يتم به الصيام مغيب قرص الشمس، فمن فالمشهور من المذهب أن عليه القضاء والكفارة، وفي ثمانية أفطر وهو شاك هل غابت الشمس، أبي زيد : عليه القضاء فقط قياسا على الشك في الفجر، وهو قول جماعة من العلماء، وقال إسحاق : لا قضاء عليه كالناسي عنده. والحسن
وقوله تعالى: ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد قالت فرقة: المعنى: لا تجامعوهن، وقال الجمهور: ذلك يقع على الجماع فما دونه مما يتلذذ به من النساء، [ ص: 456 ] و"عاكفون" ملازمون، يقال: عكف على الشيء إذا لازمه مقبلا عليه، قال الراجز:
.................... عكف النبيط يلعبون الفنزجا
وظل بنات الليل حولي عكفا عكوف البواكي بينهن صريع
وقال ، أبو عمرو وأبو حاتم : قرأ : "عكفون" بغير ألف، والاعتكاف سنة. وقرأ قتادة : "في المسجد" بالإفراد، وقال: وهو الأعمش المسجد الحرام .
قال رحمه الله وجماعة معه: مالك وروي عن لا اعتكاف إلا في مساجد الجمعات، أيضا أن ذلك في كل مسجد، ويخرج إلى الجمعة كما يخرج إلى ضروري أشغاله، وقال قوم: لا اعتكاف إلا في أحد المساجد الثلاثة التي تشد المطي إليها، وقالت فرقة، لا اعتكاف إلا في مسجد نبي. وقال مالك : لا مالك ومن نذر أحدهما لزمه الآخر. وقال يعتكف أقل من يوم وليلة، : من نذر اعتكاف ليلة لم يلزمه شيء، وقالت طائفة: أيهما نذر اعتكفه ولم يلزمه أكثر. سحنون
وقال : لا اعتكاف إلا بصوم، وقال غيره: مالك وروي عن يعتكف بغير صوم. أنه يعتكف في غير مسجد، و"تلك" إشارة إلى هذه الأوامر والنواهي. والحدود: الحواجز بين الإباحة والحظر، ومنه قيل للبواب حداد لأنه يمنع، ومنه الحاد لأنها تمنع من الزينة،. عائشة
والآيات: العلامات الهادية إلى الحق، و"لعلهم" ترج في حقهم، وظاهر ذلك [ ص: 457 ] عموم، ومعناه خصوص فيمن يسره الله للهدى بدلالة الآيات التي تتضمن أن الله يضل من يشاء.