إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا
لما فرغ من ذكر الكفرة والأخسرين أعمالا عقب بذكر حالة المؤمنين ليظهر التباين، وفي هذا بعث النفوس على اتباع الحسن القويم.
واختلف المفسرون في "الفردوس"، فقال : إنه أعلى الجنة وربوتها، وقال قتادة رضي الله عنه: إنه جبل تنفجر منه أنهار الجنة، وقال أبو هريرة إنه سرة الجنة ووسطها، وروى أبو أمامة: رضي الله عنه أنه يتفجر منه أنهار الجنة، وقال أبو سعيد الخدري عبد الله بن الحارث بن كعب: إنه جنات الكروم والأعناب خاصة من الثمار، وقاله واستشهد قوم لذلك بقول كعب الأحبار، أمية بن أبي الصلت:
كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة ... فيها الفراديس والفومان والبصل
[ ص: 668 ] وقال : قيل: إن الفردوس سريانية، وقيل: رومية، ولم يسمع بالفردوس في كلام الزجاج العرب إلا في بيت حسان بن ثابت:
وإن ثواب الله كل موحد ... جنان من الفردوس فيها يخلد
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وقالت فرقة: الفردوس: البستان بالرومية. وهذا اقتضاب القول في "الفردوس" وعيون ما قيل فيه. "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس"،
وقوله تعالى: "نزلا" يحتمل الوجهين اللذين قدمناهما قبل. و "الحول" بمعنى: التحول. قال : متحولا، ومنه قول الشاعر: مجاهد
لكل دولة أجل ... ثم يتاح لها حول
وكأنه اسم جمع، وكأن واحده حوالة، وفي هذا نظر. وقال عن قوم: هو بمعنى الحيلة في الشغل. الزجاج
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا ضعيف متكلف.
وأما قوله تعالى: قل لو كان البحر مدادا الآية، فروي أن سبب الآية أن اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وسلم كيف تزعم أنك نبي الأمم كلها ومبعوث إليها، وأنك أعطيت ما يحتاجه الناس من العلم، وأنت مقصر قد سئلت في الروح ولم تجب فيه، ونحو هذا من القول، فنزلت الآية معلمة باتساع معلومات الله عز وجل، وأنها غير متناهية، وأن [ ص: 669 ] الوقوف دونها ليس ببدع ولا نكر، فعبر عن هذا بتمثيل ما يستكثرونه وهو قوله: قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي . و "الكلمات" هي المعاني القائمة بالنفس، وهي المعلومات، ومعلومات الله سبحانه لا تتناهى، والبحر متناه ضرورة.
وقرأ الجمهور: "تنفد" بالتاء من فوق، وقرأ "ينفد" بالياء، وقرأ عمرو بن عبيد: عبد الله بن مسعود، "قبل أن تقضى كلمات ربي". وطلحة بن مصرف:
وقوله: "مدادا" أي: زيادة، وقرأ الجمهور: "مدادا"، وقرأ ، ابن عباس ، وابن مسعود ، والأعمش ، ومجاهد : "مدادا"، فالمعنى: لو كان البحر مدادا تكتب به معلومات الله عز وجل لنفد قبل أن يستوفيها، وكذلك إلى ما شئت من العدد; وإنما أنا بشر مثلكم لم أعط إلا ما أوحي إلي وكشف لي، وقرأ والأعرج ابن عامر وحمزة : (ينفد) بالياء من تحت، وقرأ الباقون بالتاء من فوق. والكسائي
وقوله تعالى: قل إنما أنا بشر مثلكم الآية. المعنى: إنما أنا بشر ينتهي علمي إلى حيث يوحى إلي، ومهم ما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد، وكان كفرهم بعبادة الأصنام فلذلك خصص هذا الفصل مما أوحي إليه، ثم أخذ في الموعظة والوصايا البينة الرشد. و"يرجوا" على بابها، وقالت فرقة: "يرجو": يخاف، وقد تقدم القول في هذا إذ المقصد: ممن كان يؤمن بلقاء ربه، وكل مؤمن بلقاء ربه فلا محالة أنه بحالتي خوف ورجاء، فلو عبر بالخوف كان المعنى تاما على جهة التخويف والتحذير، وإذا عبر بالرجاء فعلى جهة الإطماع وبسط النفوس إلى إحسان الله سبحانه وتعالى، أي: من كان يرجوا النعيم المؤبد من ربه فليعمل عملا صالحا، وباقي الآية بين في الشرك بالله تبارك وتعالى. وقال في تفسيرها: لا يرائي في عمله، وقد روي حديث أنها نزلت في الرياء حين سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن يجاهد ويحمده الناس. وقال [ ص: 670 ] سعيد بن جبير هذه آخر آية نزلت من القرآن. معاوية بن أبي سفيان:
كمل تفسير سورة الكهف، والحمد لله رب العالمين