والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون
المعنى: واذكر التي أحصنت فرجها: وهي مريم بنت عمران أم عيسى عليهما السلام. و "الفرج" - فيما قال الجمهور، وهو ظاهر القرآن -: الجارحة المعروفة، وفي إحصانها هو المدح. وقالت فرقة: الفرج هنا فرج ثوبها الذي منه نفخ الملك، وهذا ضعيف، وأما نفخ الولد فيها فقال كثير من العلماء: إنما نفخ في جيب درعها، وأضاف [ ص: 199 ] "الروح" إضافة الملك إلى المالك، و "ابنها": هو عيسى بن مريم عليه السلام ، وأراد تعالى أنه جعل مجموع قصة عيسى وقصة مريم عليهما السلام من أولها إلى آخرها آية لمن اعتبر ذلك. و "للعالمين" يريد: لمن عاصر فما بعد ذلك.
وقوله تعالى: إن هذه أمتكم يحتمل الكلام أن يكون منقطعا خطابا لمعاصري محمد عليه الصلاة والسلام، ثم أخبر عن الناس أنهم تقطعوا، ثم وعد وأوعد، ويحتمل أن يكون متصلا، أي: جعلنا مريم وابنها آية للعالمين بأن بعث لهم بملة وكتاب، وقيل لهم: إن هذه أمتكم ، أي دعا الجميع إلى الإيمان بالله تبارك وتعالى وعبادته، ثم أخبر تعالى أنهم بعد ذلك أنهم اختلفوا وتقطعوا أمرهم، ثم فرق بين المحسن والمسيء فذكر المحسن بالوعد، أي: فمن عمل من الصالحات وهو مؤمن فهو بسعيه يجازى، وذكر المسيء بالوعيد في قوله: وحرام على قرية أهلكناها الآية، فتأمل الوعيد فيها على كل قول تذكرة فإنه بين، و "الكفران" مصدر كالكفر، ومنه قول الشاعر:
رأيت أناسا لا تنام خدودهم وخدي ولا كفران لله نائم
فأما معنى الآية فقالت فرقة: حرام وحرم معناه: جزم وحتم على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون إلى الدنيا فيتوبون ويستعتبون، بل هم صائرون إلى العذاب، وقال بعض هذه الفرقة: "الإهلاك" هو بالطبع على القلوب ونحوه، و "الرجوع" هو إلى التوبة والإيمان، وقالت طائفة: المعنى: وحرام، أي: ممتنع - وحرم كذلك - على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون، وقالوا: لا زيادة في الكلام. واختلفوا في "الإهلاك والرجوع" بحسب القولين المذكورين، قال : يحتمل أن يرتفع "حرام" بالابتداء، والخبر رجوعهم، و "لا" زائدة، ويحتمل أن يرتفع "حرام" على خبر الابتداء، كأنه قال: والإقالة والتوبة حرام، ثم يكون التقدير بأنهم لا يرجعون، فتكون "لا" على بابها، كأنه قال: هذا عليهم ممتنع بسبب كذا، فقال تحريم في الآية بالجملة ليس كتحريم الشرع الذي إن شاء المنهي عنه ركبه. أبو علي
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
ويتجه في الآية معنى ضمنه وعيد بين، وذلك أنه ذكر من عمل صالحا وهو مؤمن، ثم عاد إلى ذكر الكفرة الذين من كفرهم ومعتقدهم أنهم لا يحشرون إلى رب، ولا يرجعون إلى معاد، فهم يظنون بذلك أنه لا عقاب ينالهم، فجاءت الآية مكذبة لظن هؤلاء، أي: "ممتنع على الكفرة المهلكين أن لا يرجعون، بل هم راجعون إلى عقاب الله وأليم عذابه"، فتكون "لا" على بابها، والحرام على بابه، وكذلك الحرم فتأمله.
[ ص: 201 ]