ومن يرغب عن ملة إبراهيم : إنكار؛ واستبعاد لأن يكون في العقلاء من يرغب عن ملته؛ التي هي الحق الصريح؛ والدين الصحيح؛ أي: لا يرغب عن ملته الواضحة الغراء؛ إلا من سفه نفسه ؛ أي: أذلها؛ واستمهنها؛ واستخف بها؛ وقيل: خسر نفسه؛ وقيل: أوبق؛ أو: أهلك؛ أو جهل نفسه؛ قال المبرد؛ وثعلب: "سفه"؛ بالكسر متعد؛ وبالضم لازم؛ ويشهد له ما ورد في الخبر: "الكبر أن تسفه الحق وتغمص الناس"؛ وقيل: معناه: ضل من قبل نفسه؛ وقيل: أصله: "سفه نفسه"؛ بالرفع؛ فنصب على التمييز؛ نحو: غبن رأيه؛ وألم رأسه؛ ونحو قوله:
ونأخذ بعده بذناب عيش ... أجب الظهر ليس له سنام
وقوله:
وما قومي بثعلبة بن سعد ... ولا بفزارة الشعر الرقابا
ذلك لأنه إذا رغب عما لا يرغب عنه أحد من العقلاء فقد بالغ في إذلال نفسه؛ وإذالتها وإهانتها؛ حيث خالف بها كل نفس عاقلة؛ روي أن دعا ابني أخيه عبد الله بن سلام سلمة؛ ومهاجرا؛ إلى الإسلام؛ فقال لهما: قد علمنا أن الله (تعالى) قال في التوراة: "إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد؛ فمن آمن به فقد اهتدى؛ ورشد؛ ومن لم يؤمن به فهو ملعون؛ فأسلم سلمة؛ وأبى مهاجر؛ فنزلت.
ولقد اصطفيناه في الدنيا ؛ أي: اخترناه بالنبوة؛ والحكمة من بين سائر الخلق؛ وأصله: اتخاذ صفوة الشيء؛ كما أن أصل الاختيار اتخاذ خيره؛ واللام لجواب قسم محذوف؛ والواو اعتراضية؛ والجملة مقررة لمضمون ما قبلها؛ أي: وبالله لقد اصطفيناه؛ وقوله (تعالى): وإنه في الآخرة لمن الصالحين ؛ أي: من المشهود لهم بالثبات على الاستقامة؛ والخير. والصلاح معطوف عليها؛ داخل في حيز القسم؛ مؤكد لمضمونها؛ مقرر لما تقرره؛ ولا حاجة إلى جعله اعتراضا آخر؛ أو حالا مقدرة؛ فإن من كان صفوة للعباد في الدنيا؛ مشهودا له بالصلاح في الآخرة؛ كان حقيقا بالاتباع؛ لا يرغب عن ملته إلا سفيه؛ أو متسفه؛ أذل نفسه بالجهل؛ والإعراض عن النظر؛ والتأمل. وإيثار الاسمية لما أن انتظامه في زمرة صالحي أهل الآخرة أمر مستمر في الدارين؛ لا أنه [ ص: 163 ] يحدث في الآخرة؛ والتأكيد بـ "إن" واللام لما أن الأمور الأخروية خفية عند المخاطبين؛ فحاجتها إلى التأكيد أشد من الأمور التي تشاهد آثارها؛ وكلمة "في" متعلقة بـ "الصالحين"؛ على أن اللام للتعريف؛ وليست بموصولة حتى يلزم تقديم بعض الصلة عليها؛ على أنه قد يغتفر في الظرف ما لا يغتفر في غيره؛ كما في قوله:
ربيته حتى إذا تمعددا ... كان جزائي بالعصا أن أجلدا
أو بمحذوف من لفظه؛ أي: وإنه لصالح في الآخرة لمن الصالحين؛ أو من غير لفظه؛ أي: أعني: في الآخرة؛ نحو: لك بعد رعيا؛ وقيل: هي متعلقة بـ "اصطفيناه"؛ على أن في النظم الكريم تقديما وتأخيرا؛ تقديره: "ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة؛ وإنه لمن الصالحين".