فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير
فاستقم كما أمرت لما بين في تضاعيف القصص المحكية عن الأمم الماضية سوء عاقبة الكفر وعصيان الرسل، وأشير إلى أن حال هؤلاء الكفرة في الكفر والضلال واستحقاق العذاب مثل أولئك المعذبين، وأن نصيبهم من العذاب واصل إليهم من غير نقص، وأن تكذيبهم للقرآن مثل تكذيب قوم موسى - عليه السلام - للتوراة، وأنه لو لم تسبق كلمة القضاء بتأخير عقوبتهم العامة، ومؤاخذتهم التامة إلى يوم القيامة لفعل بهم ما فعل بآبائهم من قبل، وأنهم يوفون نصيبهم غير منقوص، وأن كل واحد من المؤمنين والكافرين يوفي جزاء عمله - أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالاستقامة، كما أمر به في العقائد والأعمال المشتركة بينه وبين سائر المؤمنين، ولا سيما الأعمال الخاصة به - عليه السلام - من تبليغ الأحكام الشرعية، والقيام بوظائف النبوة، وتحمل أعباء الرسالة، بحيث يدخل تحته ما أمر به فيما سبق من قوله تعالى: "فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك" ... الآية، وبالجملة فهذا الأمر منتظم لجميع محاسن الأحكام الأصلية والفرعية والكمالات النظرية والعملية، والخروج من عهدته في غاية ما يكون من الصعوبة، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «شيبتني سورة هود».
ومن تاب معك أي: تاب من الشرك والكفر وشاركك في الإيمان، وهو المعني بالمعية، وهو معطوف على [ ص: 245 ] المستكن في قوله "فاستقم" وحسن من غير تأكيد لمكان الفاصل القائم مقامه، وفي الحقيقة هو من عطف الجملة على الجملة، إذ المعنى: وليستقم من تاب معك، وقيل: هو منصوب على أنه مفعول معه، كما قاله أبو البقاء، والمعنى: استقم مصاحبا لمن تاب معك.
ولا تطغوا ولا تنحرفوا عما حد لكم بإفراط أو تفريط، فإن كلا طرفي قصد الأمور ذميم، وإنما سمي ذلك طغيانا - وهو تجاوز الحد - تغليظا، أو تغليبا لحال سائر المؤمنين على حاله عليه السلام.
إنه بما تعملون بصير فيجازيكم على ذلك، وهو تعليل للأمر والنهي، وفي الآية دلالة على وجوب اتباع المنصوص عليه من غير انحراف بمجرد الرأي، فإنه طغيان وضلال، وأما العمل بمقتضى الاجتهاد التابع لعلل النصوص فذلك من باب الاستقامة،كما أمر على موجب النصوص الآمرة بالاجتهاد.