ومن الناس : شروع في بيان أن بعض من حكيت أحوالهم السالفة ليسوا بمقتصرين على ما ذكر من محض الإصرار على الكفر والعناد؛ بل يضمون إليه فنونا أخر من الشر والفساد؛ وتعديد لجناياتهم الشنيعة المستتبعة لأحوال هائلة؛ عاجلة وآجلة؛ وأصل "ناس"؛ "أناس"؛ كما يشهد له "إنسان"؛ و"أناسي"؛ و"إنس"؛ حذفت همزته تخفيفا؛ كما قيل: "لوقة"؛ في "ألوقة"؛ وعوض عنها حرف التعريف؛ ولذلك لا يكاد يجمع بينهما؛ وأما ما في قوله:
إن المنايا يطلعـ ... ـن على الأناس الآمنينا
فشاذ؛ سموا بذلك لظهورهم؛ وتعلق الأناس بهم؛ كما سمي الجن جنا لاجتنانهم؛ وذهب بعضهم إلى أن أصله "النوس"؛ وهو الحركة؛ انقلبت واوه ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها؛ وبعضهم إلى أنه مأخوذ من "نسي"؛ نقلت لامه إلى موضع العين؛ فصار "نيسا"؛ ثم قلبت ألفا؛ سموا بذلك لنسيانهم؛ ويروى عن أنه قال: سمي الإنسان إنسانا لأنه عهد إليه فنسي؛ واللام فيه إما للعهد؛ أو للجنس المقصور على المصرين؛ حسبما ذكر في الموصول؛ كأنه قيل: ومنهم؛ أو من أولئك؛ والعدول إلى "الناس" للإيذان بكثرتهم؛ كما ينبئ عنه التبعيض؛ ومحل الظرف الرفع؛ على أنه مبتدأ؛ باعتبار مضمونه؛ أو نعت لمبتدإ؛ كما في قوله - عز وجل -: ابن عباس ومنا دون ذلك ؛ أي: وجمع منا؛ إلخ.. و"من" في قوله (تعالى): من يقول ؛ موصولة؛ أو موصوفة؛ ومحلها الرفع؛ على الخبرية؛ والمعنى: وبعض الناس؛ أو: وبعض من الناس الذي يقول؛ كقوله (تعالى): ومنهم الذين يؤذون النبي ؛ الآية.. أو: فريق يقول؛ كقوله (تعالى): من المؤمنين رجال ؛ إلخ.. على أن يكون مناط الإفادة؛ والمقصود بالأصالة اتصافهم بما في حيز الصلة؛ أو الصفة؛ وما يتعلق به من الصفات جميعا؛ لا كونهم ذوات أولئك المذكورين؛ وأما جعل الظرف خبرا - كما هو الشائع في موارد الاستعمال - فيأباه جزالة المعنى؛ لأن كونهم من الناس ظاهر؛ فالإخبار به عار عن الفائدة؛ كما قيل؛ فإن مبناه توهم كون المراد بـ "الناس"؛ الجنس مطلقا؛ وكذا مدار الجواب عنه بأن الفائدة هو التنبيه على أن الصفات المذكورة تنافي الإنسانية؛ فحق من يتصف بها ألا يعلم كونه من الناس؛ فيخبر به؛ ويتعجب منه؛ وأنت خبير بأن "الناس" عبارة عن المعهودين؛ أو عن الجنس المقصور على المصرين؛ وأيا ما كان؛ فالفائدة ظاهرة؛ بل لأن خبرية الظرف تستدعي أن يكون اتصاف هؤلاء بتلك الصفات القبيحة المفصلة في ثلاث عشرة آية عنوانا [ ص: 40 ]
للموضوع؛ مفروغا عنه؛ غير مقصود بالذات؛ ويكون مناط الإفادة كونهم من أولئك المذكورين؛ ولا ريب لأحد في أنه يجب حمل النظم الجليل على أجزل المعاني وأكملها؛ وتوحيد الضمير في "يقول"؛ باعتبار لفظة "من"؛ وجمعه في قوله: آمنا بالله وباليوم الآخر ؛ وما بعده؛ باعتبار معناها؛ والمراد بـ "اليوم الآخر": من وقت الحشر إلى ما لا يتناهى؛ أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة؛ وأهل النار النار؛ إذ لا حد وراءه؛ وتخصيصهم للإيمان بهما بالذكر مع تكرير الباء لادعاء أنهم قد حازوا الإيمان من قطريه؛ وأحاطوا به من طرفيه؛ وأنهم قد آمنوا بكل منهما على الأصالة والاستحكام؛ وقد دسوا تحته ما هم عليه من العقائد الفاسدة؛ حيث لم يكن إيمانهم بواحد منهما إيمانا في الحقيقة؛ إذ كانوا مشركين بالله بقولهم: عزير ابن الله ؛ وجاحدين باليوم الآخر بقولهم: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ؛ ونحو ذلك؛ وحكاية عبارتهم لبيان كمال خبثهم؛ ودعارتهم؛ فإن ما قالوا لو صدر عنهم لا على وجه الخداع والنفاق - وعقيدتهم عقيدتهم - لم يكن ذلك إيمانا؛ فكيف وهم يقولونه تمويها على المؤمنين؛ واستهزاء بهم.
وما هم بمؤمنين : رد لما ادعوه؛ ونفي لما انتحلوه؛ و"ما" حجازية؛ فإن جواز دخول الباء في خبرها لتأكيد النفي اتفاقي؛ بخلاف التميمية؛ وإيثار الجملة الاسمية على الفعلية الموافقة لدعواهم المردودة للمبالغة في الرد بإفادة انتفاء الإيمان عنهم في جميع الأزمنة؛ لا في الماضي فقط؛ كما يفيده الفعلية؛ ولا يتوهمن أن الجملة الاسمية الإيجابية تفيد دوام الثبوت؛ فعند دخول النفي عليها يتعين الدلالة على نفي الدوام؛ فإنها بمعونة المقام تدل على دوام النفي قطعا؛ كما أن المضارع الخالي عن حرف الامتناع يدل على استمرار الوجود؛ وعند دخول حرف الامتناع عليه يدل على استمرار الامتناع؛ لا على امتناع الاستمرار؛ كما في قوله - عز وجل -: ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم ؛ فإن عدم قضاء الأجل لاستمرار عدم التعجيل؛ لا لعدم استمرار التعجيل؛ وإطلاق الإيمان عما قيدوه به للإيذان بأنهم ليسوا من جنس الإيمان في شيء أصلا؛ فضلا عن الإيمان بما ذكروا؛ وقد جوز أن يكون المراد ذلك؛ ويكون الإطلاق للظهور؛ ومدلول الآية الكريمة أن من أظهر الإيمان؛ واعتقاده بخلافه؛ لا يكون مؤمنا؛ فلا حجة فيها على الكرامية القائلين بأن من تفوه بكلمتي الشهادة - فارغ القلب عما يوافقه أو ينافيه - مؤمن.