آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير .
آمن الرسول ؛ لما ذكر في فاتحة السورة الكريمة أن ما أنزل إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب العظيم الشأن؛ هدى للمتصفين بما فصل هناك من الصفات الفاضلة؛ التي من جملتها الإيمان به؛ وبما أنزل قبله من الكتب الإلهية؛ وأنهم حائزون لأثرتي الهدى؛ والفلاح؛ من غير تعيين لهم بخصوصهم؛ ولا تصريح بتحقق اتصافهم بها؛ إذ ليس فيما يذكر في حيز الصلة حكم بالفعل؛ وعقب ذلك ببيان حال من كفر به؛ من المجاهرين؛ والمنافقين؛ ثم شرح في تضاعيفها من فنون الشرائع؛ والأحكام؛ والمواعظ؛ والحكم؛ وأخبار سوالف الأمم؛ وغير ذلك؛ مما تقتضي الحكمة شرحه؛ عين في خاتمتها المتصفون بها؛ وحكم باتصافهم بها؛ على طريق الشهادة لهم؛ من جهته - عز وجل - بكمال الإيمان؛ وحسن الطاعة. وذكره - صلى الله عليه وسلم - بطريق الغيبة؛ مع ذكره هناك بطريق الخطاب؛ لما أن حق الشهادة الباقية على مر الدهور ألا يخاطب بها المشهود له؛ ولم يتعرض ههنا لبيان فوزهم بمطالبهم؛ التي من جملتها ما حكي عنهم من الدعوات الآتية؛ إيذانا بأنه أمر محقق؛ غني عن التصريح به؛ لا سيما بعدما نص عليه فيما سلف؛ وإيراده - صلى الله عليه وسلم - بعنوان الرسالة؛ المنبئة عن كونه - صلى الله عليه وسلم - صاحب كتاب مجيد؛ وشرع جديد؛ تمهيد لما يعقبه من قوله (تعالى): بما أنزل إليه ؛ ومزيد توضيح لاندراجه في الرسل المؤمن بهم - عليهم السلام -؛ والمراد بـ "ما أنزل إليه": ما يعم كله؛ وكل جزء من أجزائه؛ ففيه تحقيق لكيفية إيمانه - صلى الله عليه وسلم -؛ وتعيين لعنوانه؛ أي: آمن - عليه الصلاة والسلام - بكل ما أنزل إليه ؛ من ربه ؛ إيمانا تفصيليا؛ متعلقا بجميع ما فيه من الشرائع؛ والأحكام؛ والقصص؛ والمواعظ؛ وأحوال الرسل؛ والكتب؛ وغير ذلك؛ من حيث إنه منزل منه (تعالى)؛ وأما الإيمان بحقية أحكامه؛ وصدق أخباره؛ ونحو ذلك؛ فمن فروع الإيمان به؛ من الحيثية المذكورة؛ وفي هذا الإجمال إجلال لمحله - صلى الله عليه وسلم -؛ وإشعار بأن تعلق إيمانه بتفاصيل ما أنزل إليه؛ وإحاطته بجميع ما انطوى [ ص: 274 ] عليه؛ من الظهور بحيث لا حاجة إلى ذكره أصلا؛ وكذا في التعرض لعنوان الربوبية؛ مع الإضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام - تشريف له؛ وتنبيه على أن إنزاله إليه تربية؛ وتكميل له - عليه الصلاة والسلام.
والمؤمنون ؛ أي: الفريق؛ المعروفون بهذا الاسم؛ فاللام عهدية؛ لا موصولة؛ لإفضائها إلى خلو الكلام عن الجدوى؛ وهو مبتدأ؛ وقوله - عز وجل -: كل : مبتدأ ثان؛ وقوله (تعالى): آمن : خبره؛ والجملة خبر للمبتدإ الأول؛ والرابط بينهما الضمير الذي ناب منابه التنوين؛ وتوحيد الضمير في "آمن"؛ مع رجوعه إلى كل المؤمنين؛ لما أن المراد بيان إيمان كل فرد منهم؛ من غير اعتبار الاجتماع؛ كما اعتبر ذلك في قوله (تعالى): وكل أتوه داخرين ؛ وتغيير سبك النظم الكريم عما قبله لتأكيد الإشعار بما بين إيمانه - عليه الصلاة والسلام -؛ المبني على المشاهدة؛ والعيان؛ وبين إيمانهم الناشئ عن الحجة؛ والبرهان؛ من التفاوت البين؛ والاختلاف الجلي؛ كأنهما مختلفان من كل وجه؛ حتى في هيئة التركيب؛ الدال عليهما؛ وما فيه من تكرير الإسناد لما في الحكم بإيمان كل واحد منهم على الوجه الآتي؛ من نوع خفاء محوج إلى التقوية؛ والتأكيد؛ أي: كل واحد منهم آمن؛ بالله ؛ وحده؛ من غير شريك له في الألوهية؛ والمعبودية؛ وملائكته ؛ أي: من حيث إنهم عباد مكرمون له (تعالى)؛ من شأنهم التوسط بينه (تعالى) وبين الرسل؛ بإنزال الكتب؛ وإلقاء الوحي؛ فإن مدار الإيمان بهم ليس من خصوصيات ذواتهم في أنفسهم؛ بل هو من إضافتهم إليه (تعالى) من الحيثية المذكورة؛ كما يلوح به الترتيب في النظم؛ وكتبه ورسله ؛ أي: من حيث مجيئهما من عنده (تعالى) لإرشاد الخلق إلى ما شرع لهم من الدين؛ بالأوامر؛ والنواهي؛ لكن لا على الإطلاق؛ بل على أن كل واحد من تلك الكتب منزل منه (تعالى) إلى رسول معين من أولئك الرسل - عليهم الصلاة والسلام - حسبما فصل في قوله (تعالى): قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم ؛ الآية.. ولا على أن مناط الإيمان خصوصية ذلك الكتاب؛ أو ذلك الرسول؛ بل على أن الإيمان بالكل مندرج في الإيمان بالكتاب المنزل إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؛ ومستند إليه؛ لما تلي من الآية الكريمة؛ ولا على أن أحكام الكتب السالفة؛ وشرائعها باقية بالكلية؛ ولا على أن الباقي منها معتبر بالإضافة إليها؛ بل على أن أحكام كل واحد منها كانت حقة ثابتة؛ إلى ورود كتاب آخر ناسخ له؛ وأن ما لم ينسخ منها إلى الآن من الشرائع؛ والأحكام ثابتة من حيث إنها من أحكام هذا الكتاب المصون عن النسخ إلى يوم القيامة؛ وإنما لم يذكر ههنا الإيمان باليوم الآخر؛ كما ذكر في قوله (تعالى): ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ؛ لاندراجه في الإيمان بكتبه؛ وقرئ: "وكتابه"؛ على أن المراد به القرآن؛ أو جنس الكتاب؛ كما في قوله (تعالى): فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ؛ والفارق بينه وبين الجمع أنه شائع في أفراد الجنس؛ والجمع في جموعه؛ ولذلك قيل: "الكتاب أكثر من الكتب"؛ وهذا نوع تفصيل لما أجمل في قوله (تعالى): بما أنزل إليه من ربه ؛ اقتصر عليه إيذانا بكفايته في الإيمان الإجمالي؛ المتحقق في كل فرد من أفراد المؤمنين؛ من غير نفي لزيادة؛ ضرورة اختلاف طبقاتهم؛ وتفاوت إيمانهم بالأمور المذكورة في مراتب التفصيل؛ تفاوتا فاحشا؛ فإن الإجمال في الحكاية لا يوجب الإجمال في المحكي؛ كيف لا.. وقد أجمل في حكاية إيمانه - عليه الصلاة والسلام - بما أنزل إليه من ربه؛ مع بداهة كونه متعلقا بتفاصيل ما فيه من الجلائل؛ والدقائق؟! ثم إن الأمور المذكورة [ ص: 275 ] حيث كانت من الأمور الغيبية التي لا يوقف عليها إلا من جهة العليم الخبير؛ كان الإيمان بها مصداقا لما ذكر في صدر السورة الكريمة؛ من الإيمان بالغيب؛ وأما الإيمان بكتبه (تعالى) فإشارة إلى ما في قوله (تعالى): يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ؛ هذا هو اللائق بشأن التنزيل؛ والحقيق بمقداره الجليل؛ وقد جوز أن يكون قوله (تعالى): والمؤمنون ؛ معطوفا على "الرسول"؛ فيوقف عليه؛ والضمير الذي عوض عنه التنوين راجع إلى المعطوفين معا؛ كأنه قيل: آمن الرسول والمؤمنون بما أنزل إليه من ربه؛ ثم فصل ذلك؛ وقيل: كل واحد من "الرسول"؛ و"المؤمنين"؛ آمن بالله.. إلخ.. خلا أنه قدم المؤمن به على المعطوف؛ اعتناء بشأنه؛ وإيذانا بأصالته - عليه الصلاة والسلام - في الإيمان به؛ ولا يخفى أنه مع خلوه عما في الوجه الأول من كمال إجلال شأنه - عليه الصلاة والسلام -؛ وتفخيم إيمانه؛ مخل بجزالة النظم الكريم؛ لأنه إن حمل كل من الإيمانين على ما يليق بشأنه - عليه الصلاة والسلام - من حيث الذات؛ ومن حيث التعلق بالتفاصيل؛ استحال إسنادهما إلى غيره - عليه الصلاة والسلام -؛ وضاع التكرير؛ وإن حملا على ما يليق بشأن آحاد الأمة؛ كان ذلك حطا لرتبته العلية - عليه الصلاة والسلام -؛ وأما حملهما على ما يليق بكل واحد ممن نسبا إليه من الآحاد؛ ذاتا؛ وتعلقا؛ بأن يحملا بالنسبة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الإيمان العياني المتعلق بجميع التفاصيل؛ وبالنسبة إلى آحاد الأمة على الإيمان المكتسب؛ من جهته - عليه الصلاة والسلام -؛ اللائق بحالهم في الإجمال؛ والتفصيل؛ فاعتساف بين؛ ينبغي تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله؛ وقوله (تعالى): لا نفرق بين أحد من رسله : في حيز النصب بقول مقدر؛ على صيغة الجمع؛ رعاية لجانب المعنى؛ منصوب على أنه حال من ضمير "آمن"؛ أو مرفوع على أنه خبر آخر لـ "كل"؛ أي: يقولون: لا نفرق بينهم بأن نؤمن ببعض منهم؛ ونكفر بآخرين؛ بل نؤمن بصحة رسالة كل واحد منهم؛ قيدوا به إيمانهم تحقيقا للحق؛ وتخطئة لأهل الكتابين؛ حيث أجمعوا على الكفر بالرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ واستقلت اليهود بالكفر بعيسى - عليه السلام - أيضا؛ على أن مقصودهم الأصلي إبراز إيمانهم بما كفروا به من رسالته - عليه الصلاة والسلام -؛ لا لإظهار موافقتهم لهم فيما آمنوا به؛ وهذا كما ترى صريح في أن القائلين آحاد المؤمنين خاصة؛ إذ لا يمكن أن يسند إليه - عليه الصلاة والسلام - أن يقول: لا أفرق بين أحد من رسله؛ وهو يريد به إظهار إيمانه برسالة نفسه؛ وتصديقه في دعواها. وعدم التعرض لنفي التفريق بين الكتب لاستلزام المذكور إياه؛ وإنما لم يعكس مع تحقق التلازم من الطرفين؛ لما أن الأصل في تفريق المفرقين هو الرسل؛ وكفرهم بالكتب متفرع على كفرهم بهم؛ وقرئ بالياء؛ على إسناد الفعل إلى "كل"؛ وقرئ: "لا يفرقون"؛ حملا على المعنى؛ كما في قوله (تعالى): وكل أتوه داخرين ؛ فالجملة نفسها حال من الضمير المذكور؛ وقيل: خبر ثان لـ "كل"؛ كما قيل في القول المقدر؛ فلا بد من اعتبار الكلية بعد النفي؛ دون العكس؛ إذ المراد شمول النفي؛ لا نفي الشمول؛ والكلام في همزة "أحد"؛ وفي دخول "بين" عليه؛ قد مر تفصيله عند قوله (تعالى): لا نفرق بين أحد منهم ؛ وفيه من الدلالة صريحا على تحقق عدم التفريق بين كل فرد منهم؛ وبين من عداه؛ كائنا من كان؛ ما ليس في أن يقال: لا نفرق بين رسله؛ وإيثار إظهار الرسل على الإضمار الواقع مثله في قوله (تعالى): وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ؛ إما للاحتراز عن توهم اندراج الملائكة في الحكم؛ أو للإشعار بعلة عدم التفريق؛ أو للإيماء إلى عنوانه؛ لأن المعتبر عدم التفريق؛ من حيث الرسالة؛ دون سائر الحيثيات الخاصة.
وقالوا : عطف على "آمن"؛ وصيغة الجمع باعتبار جانب المعنى؛ وهو حكاية لامتثالهم بالأوامر؛ إثر حكاية [ ص: 276 ] إيمانهم؛ سمعنا ؛ أي: فهمنا ما جاءنا من الحق؛ وتيقنا بصحته؛ وأطعنا ؛ ما فيه من الأوامر؛ والنواهي؛ وقيل: سمعنا؛ أجبنا دعوتك؛ وأطعنا أمرك؛ غفرانك ربنا ؛ أي: اغفر لنا غفرانك؛ أو: نسألك غفرانك ذنوبنا المتقدمة؛ أو ما لا يخلو عنه البشر من التقصير في مراعاة حقوقك؛ وتقديم ذكر السمع؛ والطاعة؛ على طلب الغفران؛ لما أن تقديم الوسيلة على المسؤول أدعى إلى الإجابة؛ والقبول؛ والتعرض لعنوان الربوبية؛ مع الإضافة إليهم؛ للمبالغة في التضرع؛ والجؤار؛ وإليك المصير ؛ أي: الرجوع بالموت؛ والبعث؛ لا إلى غيرك؛ وهو تذييل لما قبله؛ مقرر للحاجة إلى المغفرة؛ لما أن الرجوع للحساب؛ والجزاء؛ .