وكأين كلام مبتدأ ناع عليهم تقصيرهم وسوء صنيعهم في صدودهم عن سنن الربانيين المجاهدين في سبيل الله مع الرسل الخالية عليهم السلام، و"كأين" لفظة مركبة من كاف التشبيه وأي حدث فيها بعد التركيب معنى التكثير كما حدث في كذا وكذا، والنون تنوين أثبتت في الخط على غير قياس وفيها خمس لغات هي إحداهن، والثانية: "كائن" مثل كاعن، والثالثة: "كأين" مثل كعين، والرابعة: "كيئن" بياء ساكنة بعدها همزة مكسورة وهي قلب ما قبلها، والخامسة: "كأن" مثل كعن، وقد قرئ بكل منها ومحلها الرفع بالابتداء. وقوله تعالى: من نبي تمييز لها لأنها مثل (كم) الخبرية وقد جاء تمييزها منصوبا كما في قوله:
أطرد اليأس بالرجا فكأين ... أملا حم يسره بعد عسر
وقوله تعالى: قاتل معه ربيون كثير خبر لها على أن الفعل مسند إلى الظاهر والرابط هو الضمير المجرور في معه. وقرئ "قتل" و"قتل" على صيغة المبني للمفعول مخففة ومشددة و "الربي" منسوب إلى الرب كالرباني وكسر الراء من تغييرات النسب. وقرئ بضمها وبفتحها أيضا على الأصل. وقيل: هو منسوب إلى الربة وهي الجماعة، أي: كثير من الأنبياء قاتل معه لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه علماء أتقياء أو عابدون أو جماعات كثيرة، فالظرف متعلق ب "قاتل" أو بمحذوف وقع حالا من فاعله كما في القراءتين الأخيرتين; إذ لا احتمال فيهما لتعلقه بالفعل، أي: قتلوا أو قتلوا كائنين معه في القتال لا في القتل، قال ما سمعنا بنبي قتل في القتال. وقال سعيد بن جبير: وجماعة من العظماء لم يقتل نبي في حرب قط. وقيل: الفعل مسند إلى ضمير النبي والظرف متعلق بمحذوف وقع حالا منه والرابط هو الضمير المجرور الراجع إليه وهذا واضح على القراءة المشهورة بلا خلاف، أي: كم من نبي قاتل كائنا معه في القتال ربيون كثير، وأما على القراءتين الأخيرتين; فغير ظاهر لا سيما على قراءة التشديد وقد جوزه بعضهم وأيده بأن مدار التوبيخ انخدالهم للإرجاف بقتله عليه السلام، أي: كم من نبي قتل كائنا معه في القتل أو في القتال ربيون إلخ... وقوله تعالى: الحسن البصري فما وهنوا عطف على "قاتل"، على أن المراد به: عدم الوهن المتوقع من القتال كما في قولك: "وعظته فلم يتعظ وصحت به فلم ينزجر" فإن الإتيان بالشيء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه وإن كان استمرارا عليه بحسب الظاهر لكنه بحسب الحقيقة صنع جديد مصحح لدخول الفاء المرتبة له على ما قبله، أي: فما فتروا وما انكسرت همتهم. لما أصابهم في أثناء القتال، وهو علة للمنفي دون النفي ، نعم يشعر بعلته قوله تعالى: في سبيل الله فإن كون ذلك في سبيله عز وجل مما يقوي قلوبهم ويزيل وهنهم و "ما" موصولة أو موصوفة فإن جعل الضميران لجميع الربيين فهي عبارة عما عدا القتل من الجراح وسائر المكاره المعترية [ ص: 96 ] للكل وإن جعلا للبعض الباقين بعد ما قتل الآخرون كما هو الأنسب بمقام توبيخ المنخذلين بعد ما استشهد الشهداء، فهي عبارة عما ذكر مع ما اعتراهم من قتل إخوانهم من الخوف والحزن وغير ذلك، هذا على القراءة المشهورة. وأما على القراءتين الأخيرتين; فإن أسند الفعل إلى الربيين فالضميران للباقين منهم حتما وإن أسند إلى ضمير النبي كما هو الأنسب بالتوبيخ على الانخذال بسبب الإرجاف بقتله عليه الصلاة والسلام فهما للباقين أيضا إن اعتبر كون الربيين مع النبي في القتل وللجميع إن اعتبر كونهم معه في القتال. وما ضعفوا عن العدو. وقيل: عن الجهاد. وقيل: في الدين. وما استكانوا أي: وما خضعوا للعدو، وأصله: استكن من السكون، لأن الخاضع يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريده، والألف من إشباع الفتحة أو استكون من الكون لأنه يطلب أن يكون لمن يخضع له وهذا تعريض بما أصابهم من الوهن والانكسار عند استيلاء الكفرة عليهم والإرجاف بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم حين أرادوا أن يعتضدوا بابن أبي المنافق في طلب الأمان من أبي سفيان. والله يحب الصابرين أي: على مقاساة الشدائد ومعاناة المكاره في سبيل الله فينصرهم ويعظم قدرهم، والمراد بالصابرين: إما المعهودون والإظهار في موضع الإضمار للثناء عليهم بحسن الصبر والإشعار بعلة الحكم، وإما الجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا، والجملة تذييل لما قبلها.