والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون
والذين تبوءوا الدار والإيمان كلام مستأنف مسوق [ ص: 229 ] لمدح الأنصار بخصال حميدة من جملتها محبتهم للمهاجرين ورضاهم باختصاص الفيء بهم أحسن رضا وأكمله، ومعنى تبوئهم الدار أنهم اتخذوا المدينة ، والإيمان مباءة وتمكنوا فيهما أشد تمكن على تنزيل الحال منزلة المكان. وقيل: ضمن التبوؤ معنى اللزوم. وقيل: تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان كقول من قال: [علفتها تبنا وماء باردا]. وقيل: المعنى تبوءوا دار الهجرة ودار الإيمان فحذف المضاف إليه من الأول وعوض منه اللام. وقيل: سمى المدينة بالإيمان لكونها مظهره ومنشأه. من قبلهم أي: من قبل هجرة المهاجرين على المعاني الأول ومن قبل تبوؤ المهاجرين على الأخيرين، ويجوز أن يجعل اتخاذ الإيمان مباءة ولزومه وإخلاصه على المعاني الأول عبارة عن إقامة كافة حقوقه التي من جملتها إظهار عامة شعائره وأحكامه، ولا ريب في تقدم الأنصار في ذلك على المهاجرين لظهور عجزهم عن إظهار بعضها لا عن إخلاصه قلبا واعتقادا إذ لا يتصور تقدمهم عليهم في ذلك. يحبون من هاجر إليهم خبر للموصول أي: يحبونهم من حيث مهاجرتهم إليهم لمحبتهم الإيمان. ولا يجدون في صدورهم أي: في نفوسهم. حاجة أي: شيئا محتاجا إليه، يقال: خذ منه حاجتك أي: ما تحتاج إليه. وقيل: إثر حاجة كالطلب والحرازة والحسد والغيظ. مما أوتوا أي: مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره. ويؤثرون أي: يقدمون المهاجرين. على أنفسهم في كل شيء من أسباب المعاش حتى إن من كان عنده امرأتان كان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحدا منهم. ولو كان بهم خصاصة أي: حاجة وخلة وأصلها خصاص البيت وهي فرجه، والجملة في حيز الحال وقد عرفت وجهه مرارا، وكان النبي عليه الصلاة والسلام قسم أموال بني النضير على المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة نفر محتاجين : أبا دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة وقال لهم: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها فنزلت، وهذا صريح في أن قوله تعالى: والذين تبوءوا ...إلخ مستأنف غير معطوف على الفقراء أو المهاجرين، نعم يجوز عطفه على "أولئك"، فإن ذلك إنما يستدعي شركة الأنصار للمهاجرين في الصدق دون الفيء فيكون قوله تعالى: يحبون وما عطف عليه استئنافا مقررا لصدقهم أو حالا من ضمير "تبوءوا". ومن يوق شح نفسه الشح بالضم والكسر وقد قرئ به أيضا: اللؤم وإضافته إلى النفس لأنه غريزة فيها مقتضية للحرص على المنع الذي هو البخل أي: ومن يوق بتوفيق الله تعالى شحها حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الإنفاق. فأولئك إشارة إلى "من" باعتبار معناها العام المنتظم للمذكورين انتظاما أوليا. هم المفلحون الفائزون بكل مطلوب الناجون عن كل مكروه ، والجملة اعتراض وارد لمدح الأنصار والثناء عليهم، وقرئ "يوق" بالتشديد.