الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: ما أصابك من حسنة إلخ بيان للجواب المجمل المأمور به وإجراؤه [ ص: 206 ] على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ثم سوق البيان من جهته عز وجل بطريق تلوين الخطاب وتوجيهه إلى كل واحد من الناس والالتفات لمزيد الاعتناء به والاهتمام برد مقالتهم الباطلة، والإيذان بأن مضمونه مبني على حكمة دقيقة حقيقة بأن يتولى بيانها علام الغيوب ، وتوجيه الخطاب إلى كل واحد منهم دون كلهم كما في قوله تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم للمبالغة في التحقيق بقطع احتمال سببية معصية بعضهم لعقوبة الآخرين أي: ما أصابك من نعمة من النعم. فمن الله أي: فهي منه تعالى بالذات تفضلا وإحسانا من غير استيجاب لها من قبلك. كيف لا؟ وأن كل ما يفعله المرء من الطاعات التي يفرض كونها ذريعة إلى إصابة نعمة ما فهي بحيث لا تكاد تكافئ نعمة حياته المقارنة لأدائها ولا نعمة إقداره تعالى إياه على أدائها فضلا عن استيجابها لنعمة أخرى، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "ما أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى" قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا". وما أصابك من سيئة أي: بلية من البلايا. فمن نفسك أي: فهي منها بسبب اقترافها المعاصي الموجبة لها وإن كانت من حيث الإيجاد منتسبة إليه تعالى نازلة من عنده عقوبة كقوله تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير . وعن عائشة رضي الله عنها: ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها وحتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر. وقيل: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما قبله وما بعده لكن لا لبيان حاله صلى الله عليه وسلم بل لبيان حال الكفرة بطريق التصوير، ولعل ذلك لإظهار كمال السخط والغضب عليهم والإشعار بأنهم لفرط جهلهم وبلادتهم بمعزل من استحقاق الخطاب لا سيما بمثل هذه الحكمة الأنيقة. وأرسلناك للناس رسولا بيان لجلالة منصبه صلى الله عليه وسلم ومكانته عند الله عز وجل بعد بيان بطلان زعمهم الفاسد في حقه صلى الله عليه وسلم بناء على جهلهم بشأنه الجليل، وتعريف "الناس" للاستغراق والجار إما متعلق بـ"رسولا" قدم عليه للاختصاص الناظر إلى قيد العموم أي: مرسلا لكل الناس لا لبعضهم فقط كما في قوله تعالى: وما أرسلناك إلا كافة للناس وإما بالفعل فـ"رسولا" حال مؤكدة، وقد جوز أن يكون مصدرا مؤكدا كما في قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      لقد كذب الواشون ما فهت عندهم ... بسر ولا أرسلتهم برسول



                                                                                                                                                                                                                                      أي: بإرسال بمعنى رسالة. وكفى بالله شهيدا أي: على رسالتك بنصب المعجزات التي من جملتها هذا النص الناطق والوحي الصادق، والالتفات لتربية المهابة وتقوية الشهادة والجملة اعتراض تذييلي.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية