لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما
لا يستوي القاعدون بحسب تفاوت درجات مساعيهم في الجهاد بعد ما مر من الأمر به وتحريض المؤمنين عليه ليأنف القاعد عنه ويترفع بنفسه عن انحطاط رتبته فيهتز له رغبة في ارتفاع طبقته، والمراد بهم: الذين أذن لهم في القعود عن الجهاد اكتفاء بغيرهم. قال بيان لتفاوت طبقات المؤمنين رضي الله تعالى عنهما: هم القاعدون عن ابن عباس بدر والخارجون إليها، وهو الظاهر الموافق لتاريخ النزول لا ما روي عن من أنهم الخارجون إلى مقاتل تبوك فإنه مما لا يوافقه التاريخ ولا يساعده الحال إذ لم يكن للمتخلفين يومئذ هذه الرخصة. وقوله تعالى: من المؤمنين متعلق بمحذوف وقع حالا من "القاعدين" أي: كائنين من المؤمنين، وفائدتها الإيذان من أول الأمر بعدم إخلال وصف القعود بإيمانهم والإشعار بعلة استحقاقهم لما سيأتي من الحسنى. غير أولي الضرر صفة ل "القاعدون" لجريانه مجرى النكرة حيث لم يقصد به قوم بأعيانهم أو بدل منه، وقرئ بالنصب على أنه حال منه أو استثناء وبالجر على أنه صفة ل "المؤمنين" أو بدل منه والضرر: المرض أو العاهة من عمى أو عرج أو زمانة أو نحوها، وفي معناه: العجز عن الأهبة. عن رضي الله تعالى عنه أنه قال: كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشيته السكينة فوقعت فخذه على فخذي حتى خشيت أن ترضها ثم سري عنه فقال: اكتب فكتبت "لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون" فقال زيد بن ثابت - وكان أعمى- يا رسول الله وكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين فغشيته السكينة كذلك ثم سري عنه فقال: اكتب ابن أم مكتوم: لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون إيرادهم بهذا العنوان دون الخروج المقابل لوصف المعطوف عليه كما وقع في عبارة رضي الله تعالى عنهما وكذا تقييد المجاهدة بكونها. ابن عباس في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم لمدحهم بذلك والإشعار بعلة استحقاقهم لعلو المرتبة مع ما فيه من حسن موقع السبيل في مقابلة القعود وتقديم القاعدين في الذكر والإيذان من أول الأمر بأن القصور الذي ينبئ عنه عدم الاستواء من جهتهم لا من جهة مقابليهم، فإن مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادة ونقصانا وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد لكن المتبادر اعتباره بحسب قصور القاصر، وعليه قوله تعالى: هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور إلى غير ذلك، وأما قوله تعالى: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون فلعل تقديم الفاضل فيه لأن صلته ملكة لصلة المفضول. وقوله عز وجل: فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة استئناف مسوق لتفضيل ما بين الفريقين من التفاضل المفهوم من ذكر عدم استوائهما إجمالا ببيان كيفيته وكميته مبني على سؤال ينساق إليه المقال كأنه قيل: كيف وقع ذلك؟ فقيل: فضل الله إلخ، وأما تقدير ما لهم لا يستوون فإنما يليق بجعل الاستئناف [ ص: 221 ] تعليلا لعدم الاستواء مسوقا لإثباته، وفيه تعكيس ظاهر فإن الذي يحق أن يكون مقصودا بالذات إنما هو بيان تفاضل الفريقين على درجات متفاوتة، وأما عدم استوائهما فقصارى أمره أن يكون توطئة لذكره ولام المجاهدين والقاعدين للعهد فقيد كون معتبر في الأول كما أن قيد عدم الضرر معتبر في الثاني و"درجة" نصب على المصدرية لوقوعها موقع المرة من التفضيل، أي: فضل الله تفضيلة أو على نزع الخافض أي: بدرجة. وقيل: على التمييز. وقيل: على الحالية من "المجاهدين" أي: ذوي درجة وتنوينها للتفخيم. وقوله تعالى: الجهاد في سبيل الله وكلا مفعول أول لما يعقبه، قدم عليه لإفادة القصر تأكيدا للوعد أي: كل واحد من المجاهدين والقاعدين. وعد الله الحسنى أي: المثوبة الحسنى وهي الجنة لا أحدهما فقط كما في قوله تعالى: وأرسلناك للناس رسولا على أن اللام متعلقة بـ"رسولا" والجملة اعتراض جيء به تداركا لما عسى يوهمه تفضيل أحد الفريقين على الآخر من حرمان المفضول. وقوله عز وجل: وفضل الله المجاهدين على القاعدين عطف على قوله تعالى: فضل الله إلخ واللام في الفريقين مغنية لهما عن ذكر القيود التي تركت على سبيل التدريج. وقوله تعالى: أجرا عظيما مصدر مؤكد لـ"فضل" على أنه بمعنى أجر، وإيثاره على ما هو مصدر من فعله للإشعار بكون ذلك التفضيل أجرا لأعمالهم ، أو مفعول ثان له بتضمينه معنى الإعطاء أي: أعطاهم زيادة على القاعدين أجرا عظيما. وقيل: هو منصوب بنزع الخافض أي: فضلهم بأجر عظيم.