يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا
يا أهل الكتاب تجريد للخطاب وتخصيص له بالنصارى زجرا لهم عما هم عليه من الكفر والضلال. لا تغلوا في دينكم بالإفراط في رفع شأن عيسى عليه السلام وادعاء ألوهيته وأما غلو اليهود في حط رتبته عليه السلام ورميهم له بأنه ولد لغير رشدة فقد نعى عليهم ذلك فيما سبق. ولا تقولوا على الله إلا الحق أي: لا تصفوه بما يستحيل اتصافه به من الحلول والاتحاد واتخاذ الصاحبة والولد بل نزهوه عن جميع ذلك. إنما المسيح قد مر تفسيره في سورة آل عمران وقرئ بكسر الميم وتشديد السين كالسكيت على صيغة المبالغة، وهو مبتدأ وقوله تعالى: عيسى بدل منه أو عطف بيان له وقوله تعالى: ابن مريم صفة له مفيدة لبطلان ما وصفوه عليه السلام به من بنوته لله تعالى وقوله تعالى: رسول الله خبر للمبتدإ والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل النهي عن القول الباطل المستلزم للأمر بضده أعني الحق، أي: أنه مقصور على رتبة الرسالة لا يتخطاها. وكلمته عطف على رسول الله أي: مكون بكلمته وأمره الذي هو كن من غير واسطة أب ولا نطفة. ألقاها إلى مريم أي: أوصلها إليها وحصلها فيها بنفخ جبريل عليه السلام. وقيل: أعلمها إياها وأخبرها بها بطريق البشارة، وذلك قوله تعالى: إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم . وقيل: الجملة حال من ضميره عليه السلام المستكن فيما دل عليه "وكلمته" من معنى المشتق الذي هو العامل فيها و"قد" مقدرة معها. وروح منه قيل: هو الذي نفخ جبريل عليه السلام في درع مريم فحملت بإذن الله تعالى سمي النفخ روحا لأنه ريح تخرج من الروح و"من" لابتداء الغاية مجازا لا تبعيضية كما زعمت النصارى. يحكى أن طبيبا حاذقا نصرانيا للرشيد ناظر علي بن حسين الواقدي المروزي ذات يوم فقال له: إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى وتلا هذه الآية فقرأ وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه فقال: إذن يلزم أن يكون جميع تلك الأشياء جزءا من الله تعالى علوا كبيرا، فانقطع النصراني فأسلم وفرح الواقدي: الرشيد فرحا شديدا ووصل بصلة فاخرة ، وهي متعلقة بمحذوف وقع صفة لـ"روح" أي: كائنة من جهته تعالى جعلت منه تعالى وإن كانت بنفخ الواقدي جبريل عليه السلام لكون النفخ بأمره سبحانه. وقيل: سمي روحا لإحيائه الأموات. وقيل: لإحيائه القلوب كما سمي به القرآن [ ص: 260 ] لذلك في قوله تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا . وقيل: أريد بالروح الوحى الذي أوحى إلى مريم بالبشارة. وقيل: جرت العادة بأنهم إذا أرادوا وصف شيء بغاية الطهارة والنظافة قالوا: إنه روح; فلما كان عيسى عليه السلام متكونا من النفخ لا من النطفة وصف بالروح، وتقديم كونه عليه السلام رسول الله في الذكر مع تأخره عن كونه كلمته تعالى وروحا منه في الوجود لتحقيق الحق من أول الأمر بما هو نص فيه غير محتمل للتأويل وتعيين مآل ما يحتمله وسد باب التأويل الزائغ. فآمنوا بالله وخصوه بالألوهية. ورسله أجمعين وصفوهم بالرسالة ولا تخرجوا بعضهم عن سلكهم بوصفه بالألوهية. ولا تقولوا ثلاثة أي: الآلهة ثلاثة الله والمسيح ومريم كما ينبئ عنه قوله تعالى: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله * أو الله ثلاثة إن صح أنهم يقولون: الله جوهر واحد ثلاثة أقانيم أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم الروح القدس وأنهم يريدون بالأول الذات. وقيل: الوجود وبالثاني العلم وبالثالث الحياة. انتهوا أي: عن التثليث. خيرا لكم قد مر وجوه انتصابه. إنما الله إله واحد أي: بالذات منزه عن التعدد بوجه من الوجوه فـ"الله" مبتدأ و"إله" خبره و "واحد" نعت أي: منفرد في ألوهيته. سبحانه أن يكون له ولد أي: أسبحه تسبيحا من ذلك فإنه إنما يتصور فيمن يماثله شيء ويتطرق إليه فناء والله سبحانه منزه عن أمثاله، وقرئ "إن يكون" أي: سبحانه ما يكون له ولد. وقوله تعالى: له ما في السماوات وما في الأرض جملة مستأنفة مسوقة لتعليل التنزيه وتقريره: أي: له ما فيهما من الموجودات خلقا وملكا وتصرفا لا يخرج عن ملكوته شيء من الأشياء التي من جملتها عيسى عليه السلام فكيف يتوهم كونه ولدا له تعالى. وكفى بالله وكيلا إليه يكل كل الخلق أمورهم وهو غني عن العالمين فأنى يتصور في حقه اتخاذ الولد الذي هو شأن العجزة المحتاجين في تدبير أمورهم إلى من يخلفهم ويقوم مقامهم.