إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا ، أو يصلبوا ، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله كلام مستأنف سيق لبيان ، وما يتعلق به من الفساد بأخذ المال ونظائره ، وتعيين موجبه العاجل والآجل ، إثر بيان عظم شأن القتل بغير حق ، وأدرج فيه بيان ما أشير إليه إجمالا من الفساد المبيح للقتل ، قيل : أي : يحاربون رسوله . وذكر الله تعالى للتمهيد والتنبيه على ما رفعة محله عنده عز وجل ، ومحاربة أهل شريعته ، وسالكي طريقته من المسلمين محاربة له صلى الله عليه وسلم ، فيعم الحكم من يحاربهم ، ولو بعد أعصار بطريق العبارة دون الدلالة والقياس ; لأن ورود النص ليس بطريق خطاب المشافهة حتى يختص حكمه بالمكلفين عند النزول ، فيحتاج في تعميمه لغيرهم إلى دليل آخر . حكم نوع من أنواع القتل
وقيل : جعل محاربة المسلمين محاربة لله تعالى ورسوله تعظيما لهم ، والمعنى : يحاربون أولياءهما . وأصل الحرب : السلب ، والمراد ههنا : قطع الطريق ، وقيل : المكابرة بطريق اللصوصية وإن كانت في مصر .
ويسعون في الأرض عطف على يحاربون ، والجار والمجرور متعلق به .
وقوله تعالى : فسادا إما مصدر وقع موقع الحال من فاعل يسعون ; أي : مفسدين ، أو مفعول له ; أي : للفساد ، أو مصدر مؤكد ليسعون ; لأنه في معنى مفسدون على أنه مصدر من أفسد بحذف الزوائد ، أو اسم مصدر .
قيل : نزلت الآية في قوم هلال بن عويمر الأسلمي ، وكان وادعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يعينه ولا يعين عليه ، ومن أتاه من المسلمين فهو آمن لا يهاج ، ومن مر بهلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو آمن لا يهاج ، فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بناس من قوم هلال ، ولم يكن هلال يومئذ شاهدا ، فقطعوا عليهم وقتلوهم وأخذوا أموالهم . وقيل : نزلت في العرنيين وقصتهم مشهورة . وقيل : في قوم من أهل الكتاب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ، فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض .
ولما كانت على مراتب متفاوتة ووجوه شتى ، من القتل بدون أخذ المال ، ومن القتل مع أخذه ، وأخذه بدون القتل ، ومن الإخافة بدون قتل وأخذ ، شرعت لكل مرتبة من تلك المراتب عقوبة معينة بطريق التوزيع ، فقيل : المحاربة والفساد أن يقتلوا ; أي : حدا من غير صلب إن أفردوا القتل ، ولو عفا الأولياء لا يلتفت إلى ذلك ; لأنه حق الشرع ، ولا فرق بين أن يكون القتل بآلة جارحة أو لا .
أو يصلبوا ; أي : مع القتل إن جمعوا بين القتل والأخذ ، بأن يصلبوا أحياء وتبعج بطونهم برمح إلى أن يموتوا ، وفي ظاهر الرواية أن الإمام مخير إن شاء اكتفى بذلك ، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وقتلهم وصلبهم ، وصيغة التفعيل في الفعلين للتكثير . وقرئ بالتخفيف فيهما .
أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ; أي : أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى ، إن اقتصروا على أخذ المال من مسلم أو ذمي ، وكان المقدار بحيث لو قسم عليهم أصاب كلا منهم عشرة دراهم ، أو ما يساويها قيمته ، أما قطع أيديهم فلأخذ المال ، وأما قطع أرجلهم فلإخافة الطريق بتفويت أمنه .
أو ينفوا من الأرض إن لم يفعلوا غير الإخافة والسعي للفساد ، والمراد بالنفي عندنا : هو الحبس ، [ ص: 32 ] فإنه نفي عن وجه الأرض لدفع شرهم عن أهلها ، ويعزرون أيضا لمباشرتهم منكر الإخافة وإزالة الأمن . وعند رضي الله عنه النفي من بلد إلى بلد لا يزال يطلب وهو هارب فزعا . وقيل : هو النفي عن بلده فقط ، وكانوا ينفونهم إلى دهلك وهو بلد في أقصى تهامة ، وناصع وهو بلد من بلاد الحبشة . الشافعي
ذلك ; أي : ما فصل من الأحكام والأجزية ، قيل : هو مبتدأ .
وقوله تعالى : لهم خزي جملة من خبر مقدم على المبتدإ .
وقوله تعالى : في الدنيا متعلق بمحذوف وقع صفة لخزي ، أو متعلق بخزي على الظرفية ، والجملة في محل الرفع على أنها خبر لذلك . وقيل : خزي خبر لذلك ، ولهم متعلق بمحذوف وقع حالا من خزي ; لأنه في الأصل صفة له ، فلما قدم انتصب حالا . وفي الدنيا إما صفة لخزي ، أو متعلق به على ما مر . والخزي : الذل والفضيحة .
ولهم في الآخرة غير هذا عذاب عظيم لا يقادر قدره لغاية عظم جنايتهم ، فقوله تعالى : " لهم " خبر مقدم ، وعذاب مبتدأ مؤخر ، وفي الآخرة متعلق بمحذوف وقع حالا من عذاب ; لأنه في الأصل صفة له ، فلما قدم انتصب حالا ; أي : كائنا في الآخرة .