وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين
وكذلك نري إبراهيم هذه الإراءة من الرؤية البصرية المستعارة للمعرفة ونظر البصيرة ; أي : عرفناه [ ص: 152 ] وبصرناه ، وصيغة الاستقبال حكاية للحال الماضية لاستحضار صورتها .
وذلك إشارة إلى مصدر نري ، لا إلى إراءة أخرى ، مفهومة من قوله : " إني أراك " ، وما فيه من معنى البعد ، للإيذان بعلو درجة المشار إليه ، وبعد منزلته في الفضل ، وكمال تميزه بذلك وانتظامه بسببه في سلك الأمور المشاهدة .
والكاف لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة ، ومحلها في الأصل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف ، وأصل التقدير : نري إبراهيم إراءة كائنة مثل تلك الإراءة ، فقدم على الفعل لإفادة القصر ، واعتبرت الكاف مقحمة للنكتة المذكورة ، فصار المشار إليه نفس المصدر المؤكد لا نعتا له ; أي : ذلك التبصير البديع نبصره عليه السلام .
ملكوت السماوات والأرض ; أي : ربوبيته تعالى ، ومالكيته لهما ، وسلطانه القاهر عليهما ، وكونهما بما فيهما مربوبا ومملوكا له تعالى ، لا تبصيرا آخر أدنى منه .
والملكوت : مصدر على زنة المبالغة ، كالرهبوت والجبروت ، ومعناه : الملك العظيم والسلطان القاهر ، ثم هل هو مختص بملك الله عز سلطانه أو لا ؟ فقد قيل : وقيل : والأول هو الأظهر ، وبه قال . الراغب
وقيل : ملكوتهما ، وعجائبهما ، وبدائعهما ; روي أنه كشف له عليه السلام عن السماوات والأرض ، حتى العرش وأسفل الأرضين ، وقيل : آياتهما . وقيل : ملكوت السماوات : الشمس والقمر والنجوم ، وملكوت الأرض : الجبال والأشجار والبحار .
وهذه الأقوال لا تقتضي أن تكون الإراءة بصرية ; إذ ليس المراد بإراءة ما ذكر من الأمور الحسية مجرد تمكينه عليه السلام من إبصارها ومشاهدتها في أنفسها ، بل إطلاعه عليه السلام على حقائقها وتعريفها ، من حيث دلالتها على شئونه عز وجل .
ولا ريب في أن ذلك ليس مما يدرك حسا ، كما ينبئ عنه اسم الإشارة المفصح عن كون المشار إليه أمرا بديعا ، فإن الإراءة البصرية المعتادة بمعزل من تلك المثابة .
وقرئ : ( تري ) بالتاء ، وإسناد الفعل إلى الملكوت ; أي : تبصره عليه السلام دلائل الربوبية .
واللام في قوله تعالى : وليكون من الموقنين متعلقة بمحذوف مؤخر ، والجملة مقرر لما قبلها ; أي : وليكون من زمرة الراسخين في الإيقان ، البالغين درجة عين اليقين من معرفة الله تعالى ، فعلنا ما فعلنا من التبصير البديع المذكور لا لأمر آخر ، فإن الوصول إلى تلك الغاية القاصية كمال مترتب على ذلك التبصير لا عينه ، وليس القصر لبيان انحصار فائدته في ذلك ، كيف لا وإرشاد الخلق وإلزام المشركين كما سيأتي من فوائده بلا مرية ، بل لبيان أنه الأصل الأصيل والباقي من مستتبعاته .
وقيل : هي متعلقة بالفعل السابق ، والجملة معطوفة على علة أخرى محذوفة ينسحب عليها الكلام ; أي : ليستدل بها وليكون ... إلخ ; فينبغي أن يراد بملكوتهما : بدائعهما وآياتهما ; لأن الاستدلال من غايات إراءتها لا من غايات إراءة نفس الربوبية .