ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين
[ ص: 1244 ] (15) يذكر في هذا القرآن وينوه بمنته على داود وسليمان ابنه بالعلم الواسع الكثير؛ بدليل التنكير؛ كما قال تعالى: وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما الآية.
وقالا شاكرين لربهما منته الكبرى بتعليمهما: الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين فحمدا الله على جعلهما من المؤمنين أهل السعادة، وأنهما كانا من خواصهم.
ولا شك أن المؤمنين أربع درجات: الصالحون، ثم فوقهم الشهداء، ثم فوقهم الصديقون، ثم فوقهم الأنبياء، وداود وسليمان من خواص الرسل وإن كانوا دون درجة أولي العزم الخمسة، لكنهم من جملة الرسل الفضلاء الكرام، الذين نوه الله بذكرهم ومدحهم في كتابه مدحا عظيما، فحمدوا الله على بلوغ هذه المنزلة، وهذا عنوان سعادة العبد: أن يكون شاكرا لله على نعمه الدينية والدنيوية، وأن يرى جميع النعم من ربه، فلا يفخر بها ولا يعجب بها، بل يرى أنها تستحق عليه شكرا كثيرا. [ ص: 1245 ] (6) فلما مدحهما مشتركين خص سليمان بما خصه به؛ لكون الله أعطاه ملكا عظيما، وصار له من الماجريات ما لم يكن لأبيه - صلى الله عليهما وسلم - فقال: وورث سليمان داود ؛ أي: ورث علمه ونبوته فانضم علم أبيه إلى علمه، فلعله تعلم من أبيه ما عنده من العلم مع ما كان عليه من العلم وقت أبيه، كما تقدم من قوله: ففهمناها سليمان ، وقال شكرا لله وتبجحا بإحسانه وتحدثا بنعمته: يا أيها الناس علمنا منطق الطير فكان عليه الصلاة والسلام يفقه ما تقول وتتكلم به، كما راجع الهدهد وراجعه، وكما فهم قول النملة للنمل كما يأتي، وهذا لم يكن لأحد غير سليمان عليه الصلاة والسلام، وأوتينا من كل شيء أي: أعطانا الله من النعم ومن أسباب الملك ومن السلطنة والقهر ما لم يؤته أحدا من الآدميين، ولهذا دعا ربه فقال: وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي فسخر الله له الشياطين، يعملون له كل ما شاء من الأعمال التي يعجز عنها غيرهم، وسخر له الريح غدوها شهر ورواحها شهر، إن هذا الذي أعطانا الله وفضلنا واختصنا به لهو الفضل المبين الواضح الجلي، فاعترف أكمل اعتراف بنعمة الله تعالى.
(17) وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون أي: جمع له جنوده الكثيرة الهائلة المتنوعة من بني آدم، ومن الجن والشياطين، ومن الطيور فهم يوزعون ، يدبرون، ويرد أولهم على آخرهم، وينظمون غاية التنظيم في سيرهم ونزولهم وحلهم وترحالهم، قد استعد لذلك وأعد له عدته، وكل هذه الجنود مؤتمرة بأمره لا تقدر على عصيانه، ولا تتمرد عنه، قال تعالى: هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك أي: أعط بغير حساب. (18) فسار بهذه الجنود الضخمة في بعض أسفاره حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة منبهة لرفقتها وبني جنسها: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فنصحت هذه النملة وأسمعت النمل، إما بنفسها، ويكون الله قد أعطى النمل أسماعا خارقة للعادة؛ لأن التنبيه للنمل الذي قد ملأ الوادي بصوت نملة واحدة من أعجب العجائب، وإما بأنها أخبرت من حولها من النمل ثم سرى الخبر من بعضهن لبعض، حتى بلغ الجميع، وأمرتهن بالحذر والطريق في ذلك، وهو دخول مساكنهن.
وعرفت حالة سليمان وجنوده وعظمة سلطانه، واعتذرت عنهم أنهم إن حطموكم فليس عن قصد منهم ولا شعور. (19) فسمع سليمان - عليه الصلاة والسلام - قولها وفهمه، فتبسم ضاحكا من قولها ؛ إعجابا منه بفصاحتها ونصحها وحسن تعبيرها، وهذا كما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - جل ضحكه التبسم، فإن القهقهة تدل على خفة العقل وسوء الأدب، وعدم التبسم والعجب مما يتعجب منه يدل على شراسة الخلق والجبروت، والرسل منزهون عن ذلك. حال الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - الأدب الكامل، والتعجب في موضعه، وأن لا يبلغ بهم الضحك إلا إلى التبسم،
وقال شاكرا لله الذي أوصله إلى هذه الحال: رب أوزعني أي: ألهمني ووفقني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي فإن النعمة على الوالدين نعمة على الولد، فسأل ربه التوفيق للقيام بشكر نعمته الدينية والدنيوية عليه وعلى والديه، وأن أعمل صالحا ترضاه أي: ووفقني أن أعمل صالحا ترضاه؛ لكونه موافقا لأمرك مخلصا فيه، سالما من المفسدات والمنقصات، وأدخلني برحمتك التي منها الجنة في جملة عبادك الصالحين فإن فهذا نموذج ذكره الله من حالة الرحمة مجعولة للصالحين على اختلاف درجاتهم ومنازلهم، سليمان عند سماع خطاب النملة ونداءها.
(20) ثم ذكر نموذجا آخر من مخاطبته للطير فقال: وتفقد الطير دل هذا على كمال عزمه وحزمه وحسن تنظيمه لجنوده وتدبيره بنفسه للأمور الصغار والكبار، حتى إنه لم يهمل هذا الأمر، وهو تفقد الطيور، والنظر هل هي موجودة كلها أم مفقود منها شيء؟ وهذا هو المعنى للآية. ولم يصنع شيئا من قال: إنه تفقد الطير لينظر أين الهدهد منها ليدله على بعد الماء وقربه، كما زعموا عن الهدهد أنه يبصر الماء تحت الأرض الكثيفة، فإن هذا القول لا يدل عليه دليل، بل الدليل العقلي واللفظي دال على بطلانه: أما العقلي فإنه قد عرف بالعادة والتجارب والمشاهدات أن هذه الحيوانات كلها ليس منها شيء يبصر هذا البصر الخارق للعادة، وينظر الماء تحت الأرض الكثيفة، ولو كان كذلك لذكره الله؛ لأنه من أكبر الآيات.
وأما الدليل اللفظي: فلو أريد هذا المعنى لقال: "وطلب الهدهد لينظر له الماء فلما فقده قال ما قال" أو: "ففتش عن الهدهد" أو: "بحث عنه" ونحو ذلك من العبارات، وإنما تفقد الطير؛ لينظر الحاضر منها والغائب، ولزومها للمراكز والمواضع التي عينها لها، وأيضا: فإن سليمان - عليه [ ص: 1247 ] السلام - لا يحتاج ولا يضطر إلى الماء بحيث يحتاج لهندسة الهدهد، فإن عنده من الشياطين والعفاريت ما يحفرون له الماء، ولو بلغ في العمق ما بلغ، وسخر الله له الريح غدوها شهر ورواحها شهر، فكيف - مع ذلك- يحتاج إلى الهدهد؟!
وهذه التفاسير التي توجد وتشتهر بها أقوال لا يعرف غيرها تنقل هذه الأقوال عن بني إسرائيل مجردة، ويغفل الناقل عن مناقضتها للمعاني الصحيحة وتطبيقها على الأقوال، ثم لا تزال تتناقل وينقلها المتأخر مسلما للمتقدم حتى يظن أنها الحق، فيقع من الأقوال الردية في التفاسير ما يقع، واللبيب الفطن يعرف أن هذا القرآن الكريم العربي المبين الذي خاطب الله به الخلق كلهم عالمهم وجاهلهم، وأمرهم بالتفكر في معانيه، وتطبيقها على ألفاظه العربية المعروفة المعاني، التي لا تجهلها العرب العرباء، وإذا وجد أقوالا منقولة عن غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ردها إلى هذا الأصل، فإن وافقته قبلها؛ لكون اللفظ دالا عليها، وإن خالفته لفظا ومعنى أو لفظا أو معنى ردها وجزم ببطلانها؛ لأن عنده أصلا معلوما مناقضا لها، وهو ما يعرفه من معنى الكلام ودلالته.
والشاهد أن تفقد سليمان - عليه السلام - للطير، وفقده الهدهد يدل على كمال حزمه وتدبيره للملك بنفسه وكمال فطنته حتى فقد هذا الطائر الصغير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين أي: هل عدم رؤيتي إياه لقلة فطنتي به لكونه خفيا بين هذه الأمم الكثيرة؟ أم على بابها بأن كان غائبا من غير إذني ولا أمري؟!
(21) فحينئذ تغيظ عليه وتوعده فقال: لأعذبنه عذابا شديدا دون القتل، أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين أي: حجة واضحة على تخلفه، وهذا من كمال ورعه وإنصافه أنه لم يقسم على مجرد عقوبته بالعذاب أو القتل؛ لأن ذلك لا يكون إلا من ذنب، وغيبته قد تحتمل أنها لعذر واضح فلذلك استثناه لورعه وفطنته.
(22) فمكث غير بعيد ثم جاء، وهذا يدل على هيبة جنوده منه وشدة ائتمارهم لأمره، حتى إن هذا الهدهد الذي خلفه العذر الواضح لم يقدر على التخلف زمنا كثيرا، فقال لسليمان: أحطت بما لم تحط به أي: عندي من العلم علم ما أحطت به على علمك الواسع وعلو درجتك فيه، وجئتك من سبإ القبيلة المعروفة في اليمن بنبإ يقين أي: خبر متيقن.
(23) ثم فسر هذا النبأ فقال: إني وجدت امرأة تملكهم أي: تملك قبيلة [ ص: 1248 ] سبأ، وهي امرأة وأوتيت من كل شيء يؤتاه الملوك من الأموال والسلاح والجنود والحصون والقلاع ونحو ذلك، ولها عرش عظيم أي: كرسي ملكها الذي تجلس عليه عرش هائل، وعظم العروش تدل على عظمة المملكة وقوة السلطان وكثرة رجال الشورى.
(24) وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله أي: هم مشركون يعبدون الشمس. وزين لهم الشيطان أعمالهم فرأوا ما عليه هو الحق، فهم لا يهتدون لأن الذي يرى أن الذي عليه حق لا مطمع في هدايته حتى تتغير عقيدته.
(25) ثم قال: ألا أي: هلا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض أي: يعلم الخفي الخبيء في أقطار السماوات وأنحاء الأرض، من صغار المخلوقات وبذور النباتات وخفايا الصدور، ويخرج خبء الأرض والسماء بإنزال المطر وإنبات النباتات، ويخرج خبء الأرض عند النفخ في الصور وإخراج الأموات من الأرض ليجازيهم بأعمالهم ويعلم ما تخفون وما تعلنون .
(26) الله لا إله إلا هو أي: لا تنبغي العبادة والإنابة والذل والحب إلا له؛ لأنه المألوه لما له من الصفات الكاملة والنعم الموجبة لذلك رب العرش العظيم الذي هو سقف المخلوقات ووسع الأرض والسماوات، فهذا الملك عظيم السلطان كبير الشأن، هو الذي يذل له ويخضع ويسجد له ويركع. (27 - 28) فسلم الهدهد حين ألقى إليه هذا النبأ العظيم وتعجب سليمان كيف خفي عليه، وقال مثبتا لكمال عقله ورزانته: سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين اذهب بكتابي هذا وسيأتي نصه فألقه إليهم ثم تول عنهم أي: استأخر غير بعيد فانظر ماذا يرجعون إليك وما يتراجعون به
(29 - 31) فذهب به، فألقاه عليها، فقالت لقومها: إني ألقي إلي كتاب كريم أي: جليل المقدار من أكبر ملوك الأرض، ثم بينت مضمونه فقالت: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين أي: لا تكونوا فوقي، بل اخضعوا تحت سلطاني، وانقادوا لأوامري، وأقبلوا إلي مسلمين، وهذا في غاية الوجازة مع البيان التام؛ فإنه تضمن نهيه عن [ ص: 1249 ] العلو عليه والبقاء على حالهم التي هم عليها، والانقياد لأمره، والدخول تحت طاعته، ومجيئهم إليه، ودعوتهم إلى الإسلام، وفيه (32 - 33) فمن حزمها وعقلها أن جمعت كبار دولتها ورجال مملكتها وقالت: استحباب ابتداء الكتب بالبسملة كاملة، وتقديم الاسم في أول عنوان الكتاب. يا أيها الملأ أفتوني في أمري أي: أخبروني ماذا نجيبه به؟! وهل ندخل تحت طاعته وننقاد؟! أم ماذا نفعل؟! ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون أي: ما كنت مستبدة بأمر دون رأيكم ومشورتكم، قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد أي: إن رددت عليه قوله ولم تدخلي في طاعته فإنا أقوياء على القتال، فكأنهم مالوا إلى هذا الرأي الذي لو تم لكان فيه دمارهم، ولكنهم أيضا لم يستقروا عليه بل قالوا: والأمر إليك أي: الرأي ما رأيت؛ لعلمهم بعقلها وحزمها ونصحها لهم فانظري نظر فكر وتدبر ماذا تأمرين .
(34 - 35) فقالت لهم -مقنعة لهم عن رأيهم ومبينة سوء مغبة القتال-: إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها قتلا وأسرا ونهبا لأموالها، وتخريبا لديارها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة أي: جعلوا الرؤساء السادة أشراف الناس من الأرذلين، أي: فهذا رأي غير سديد، وأيضا فلست بمطيعة له قبل الاختبار وإرسال من يكشف عن أحواله ويتدبرها، وحينئذ نكون على بصيرة من أمرنا.
فقالت: وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون منه؛ هل يستمر على رأيه وقوله؟ أم تخدعه الهدية وتبدل فكرته، وكيف أحواله وجنوده؟! (36) فأرسلت إليه بهدية مع رسل من عقلاء قومها وذوي الرأي منهم، فلما جاء سليمان أي: جاءه الرسل بالهدية قال منكرا عليهم ومتغيظا على عدم إجابتهم: أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم فليست تقع عندي موقعا ولا أفرح بها، قد أغناني الله عنها وأكثر علي النعم، بل أنتم بهديتكم تفرحون لحبكم للدنيا وقلة ما بأيديكم بالنسبة لما أعطاني الله.
(37) ثم أوصى الرسول من غير كتاب؛ لما رأى من عقله وأنه سينقل كلامه على وجهه، فقال: ارجع إليهم أي: بهديتك فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم أي: لا طاقة لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون فرجع إليهم [ ص: 1250 ] وأبلغهم ما قال سليمان، وتجهزوا للمسير إلى سليمان. (38 - 40) وعلم سليمان أنهم لا بد أن يسيروا إليه، فقال لمن حضره من الجن والإنس: أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين أي: لأجل أن نتصرف فيه قبل أن يسلموا فتكون أموالهم محترمة، قال عفريت من الجن والعفريت: هو القوي النشيط جدا: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين والظاهر أن سليمان إذ ذاك في الشام، فيكون بينه وبين سبأ نحو مسيرة أربعة أشهر، شهران ذهابا وشهران إيابا، ومع ذلك يقول هذا العفريت: أنا ألتزم بالمجيء به على كبره وثقله وبعده قبل أن تقوم من مجلسك الذي أنت فيه، والمعتاد من المجالس الطويلة أن تكون معظم الضحى، نحو ثلث يوم، هذا نهاية المعتاد، وقد يكون دون ذلك أو أكثر، وهذا الملك العظيم الذي عند آحاد رعيته هذه القوة والقدرة. وأبلغ من ذلك أن قال الذي عنده علم من الكتاب قال المفسرون: هو رجل عالم صالح عند سليمان، يقال له: "آصف بن برخيا" كان يعرف اسم الله الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك بأن يدعو الله بذلك الاسم، فيحضر حالا، وأنه دعا الله فحضر، فالله أعلم، هل هذا المراد أم أن عنده علما من الكتاب يقتدر به على جلب البعيد وتحصيل الشديد؟! فلما رآه سليمان مستقرا عنده حمد الله تعالى على أقداره وملكه وتيسير الأمور له و قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر أي: ليختبرني بذلك، فلم يغتر - عليه السلام - بملكه وسلطانه وقدرته كما هو دأب الملوك الجاهلين، بل علم أن ذلك اختبار من ربه، فخاف أن لا يقوم بشكر هذه النعمة، ثم بين أن هذا فقال: الشكر لا ينتفع الله به، وإنما يرجع نفعه إلى صاحبه ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم غني عن أعماله، كريم كثير الخير، يعم به الشاكر والكافر، إلا أن شكر نعمه داع للمزيد منها، وكفرها داع لزوالها. (41) ثم قال لمن عنده: نكروا لها عرشها أي: غيروه بزيادة ونقص ونحو ذلك ننظر مختبرين لعقلها أتهتدي للصواب، ويكون عندها [ ص: 1251 ] ذكاء وفطنة تليق بملكها أم تكون من الذين لا يهتدون .
(42) فلما جاءت قادمة على سليمان، عرض عليها عرشها، وكان عهدها به قد خلفته في بلدها، و قيل لها أهكذا عرشك أي: أنه استقر عندنا أن لك عرشا عظيما فهل هو كهذا العرش الذي أحضرناه لك؟ قالت كأنه هو وهذا من ذكائها وفطنتها لم تقل: "هو" لوجود التغيير فيه والتنكير ولم تنف أنه هو؛ لأنها عرفته، فأتت بلفظ محتمل للأمرين، صادق على الحالين. فقال سليمان متعجبا من هدايتها وعقلها وشاكرا لله أن أعطاه أعظم منها: وأوتينا العلم من قبلها أي: الهداية والعقل والحزم من قبل هذه الملكة، وكنا مسلمين وهي الهداية النافعة الأصلية.
ويحتمل أن هذا من قول ملكة سبأ: "وأوتينا العلم عن ملك سليمان وسلطانه وزيادة اقتداره من قبل هذه الحالة التي رأينا فيها قدرته على إحضار العرش من المسافة البعيدة، فأذعنا له وجئنا مسلمين له خاضعين لسلطانه".
(43) قال الله تعالى: وصدها ما كانت تعبد من دون الله أي: عن الإسلام، وإلا فلها من الذكاء والفطنة ما به تعرف الحق من الباطل، ولكن العقائد الباطلة تذهب بصيرة القلب، إنها كانت من قوم كافرين فاستمرت على دينهم، وانفراد الواحد عن أهل الدين والعادة المستمرة بأمر يراه بعقله من ضلالهم وخطئهم من أندر ما يكون، فلهذا لا يستغرب بقاؤها على الكفر، ثم إن سليمان أراد أن ترى من سلطانه ما يبهر العقول، فأمرها أن تدخل الصرح، وهو المجلس المرتفع المتسع، وكان مجلسا من قوارير تجري تحته الأنهار، قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة ماء؛ لأن القوارير شفافة، يرى الماء الذي تحتها كأنه بذاته يجري ليس دونه شيء، وكشفت عن ساقيها للخياضة، وهذا أيضا من عقلها وأدبها، فإنها لم تمتنع من الدخول للمحل الذي أمرت بدخوله؛ لعلمها أنها لم تستدع إلا للإكرام، وأن ملك سليمان وتنظيمه قد بناه على الحكمة، ولم يكن في قلبها أدنى شك من حالة السوء بعدما رأت ما رأت.
فلما استعدت للخوض قيل لها: إنه صرح ممرد أي: مملس من قوارير فلا حاجة منك لكشف الساقين، فحينئذ لما وصلت إلى سليمان وشاهدت ما [ ص: 1252 ] شاهدت، وعلمت نبوته ورسالته تابت ورجعت عن كفرها، و قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين .
فهذا ما قصه الله علينا من قصة ملكة سبأ، وما جرى لها مع سليمان، وما عدا ذلك من الفروع المولدة والقصص الإسرائيلية فإنه لا يتعلق بالتفسير لكلام الله، وهو من الأمور التي يقف الجزم بها على الدليل المعلوم عن المعصوم، والمنقولات في هذا الباب كلها أو أكثرها ليس كذلك، فالحزم كل الحزم الإعراض عنها وعدم إدخالها في التفاسير، والله أعلم.