وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا
[ ص: 1376 ] (13) وإذ قالت طائفة منهم من المنافقين، بعد ما جزعوا وقل صبرهم، صاروا أيضا من المخذولين، فلا صبروا بأنفسهم، ولا تركوا الناس من شرهم، فقالت هذه الطائفة: يا أهل يثرب يريدون" يا أهل المدينة "فنادوهم باسم الوطن المنبئ عن التسمية فيه إشارة إلى أن الدين والأخوة الإيمانية، ليس له في قلوبهم قدر، وأن الذي حملهم على ذلك، مجرد الخور الطبيعي.
يا أهل يثرب لا مقام لكم أي: في موضعكم الذي خرجتم إليه خارج المدينة، وكانوا عسكروا دون الخندق، وخارج المدينة، فارجعوا إلى المدينة، فهذه الطائفة تخذل عن الجهاد، وتبين أنهم لا قوة لهم بقتال عدوهم، ويأمرونهم بترك القتال، فهذه الطائفة، أشر الطوائف وأضرها، وطائفة أخرى دونهم، أصابهم الجبن والجزع، وأحبوا أن ينخزلوا عن الصفوف، فجعلوا يعتذرون بالأعذار الباطلة، وهم الذين قال الله فيهم: ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة أي: عليها الخطر، ونخاف عليها أن يهجم عليها الأعداء، ونحن غيب عنها، فأذن لنا نرجع إليها، فنحرسها، وهم كذبة في ذلك.
وما هي بعورة إن يريدون أي: ما قصدهم إلا فرارا ولكن جعلوا هذا الكلام، وسيلة وعذرا لهم، فهؤلاء قل إيمانهم، وليس له ثبوت عند اشتداد المحن.
(14) ولو دخلت عليهم المدينة من أقطارها أي: لو دخل الكفار إليها [ ص: 1377 ] من نواحيها، واستولوا عليها -لا كان ذلك- ثم سئل هؤلاء الفتنة أي: الانقلاب عن دينهم، والرجوع إلى دين المستولين المتغلبين لآتوها أي: لأعطوها مبادرين.
وما تلبثوا بها إلا يسيرا أي: ليس لهم منعة ولا تصلب على الدين، بل بمجرد ما تكون الدولة للأعداء، يعطونهم ما طلبوا، ويوافقونهم على كفرهم.
(15) هذه حالهم، والحال أنهم قد عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا سيسألهم عن ذلك العهد، فيجدهم قد نقضوه، فما ظنهم إذا بربهم؟
(16) قل لهم، لائما على فرارهم، ومخبرا أنهم لا يفيدهم ذلك شيئا لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل فلو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، والأسباب تنفع إذا لم يعارضها القضاء والقدر، فإذا جاء القضاء والقدر، تلاشى كل سبب، وبطلت كل وسيلة، ظنها الإنسان تنجيه.
وإذا حين فررتم لتسلموا من الموت والقتل، لتنعموا في الدنيا فإنكم لا تمتعون إلا قليلا متاعا، لا يسوى فراركم، وترككم أمر الله، وتفويتكم على أنفسكم، التمتع الأبدي، في النعيم السرمدي.
(17) ثم بين أن الأسباب كلها لا تغني عن العبد شيئا إذا أراده الله بسوء، فقال: قل من ذا الذي يعصمكم أي: يمنعكم من الله إن أراد بكم سوءا أي: شرا، أو أراد بكم رحمة فإنه هو المعطي المانع، الضار النافع، الذي لا يأتي بالخير إلا هو، ولا يدفع السوء إلا هو.
ولا يجدون لهم من دون الله وليا يتولاهم، فيجلب لهم النفع ولا نصيرا أي ينصرهم، فيدفع عنهم المضار، فليمتثلوا طاعة المنفرد بالأمور كلها، الذي نفذت مشيئته، ومضى قدره، ولم ينفع مع ترك ولايته ونصرته ولي ولا ناصر.
(18) ثم توعد تعالى المخذلين المعوقين، وتهددهم فقال: قد يعلم الله المعوقين منكم عن الخروج، لمن لم يخرجوا والقائلين لإخوانهم الذين خرجوا: هلم إلينا أي: ارجعوا، كما تقدم من قولهم: يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ، وهم مع تعويقهم وتخذيلهم ولا يأتون البأس القتال والجهاد [ ص: 1378 ] بأنفسهم إلا قليلا فهم أشد الناس حرصا على التخلف، لعدم الداعي لذلك، من الإيمان والصبر، ووجود المقتضي للجبن، من النفاق، وعدم الإيمان.
(19) أشحة عليكم بأبدانهم عند القتال، وأموالهم عند النفقة فيه، فلا يجاهدون بأموالهم وأنفسهم. فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت من شدة الجبن الذي خلع قلوبهم، والقلق الذي أذهلهم، وخوفا من إجبارهم على ما يكرهون، من القتال.
فإذا ذهب الخوف وصاروا في حال الأمن والطمأنينة، سلقوكم بألسنة أي: خاطبوكم، وتكلموا معكم، بكلام حديد، ودعاوى غير صحيحة، وحين تسمعهم تظنهم أهل الشجاعة والإقدام، أشحة على الخير الذي يراد منهم، وهذا شر ما في الإنسان، أن يكون شحيحا بما أمر به، شحيحا بماله أن ينفقه في وجهه، شحيحا في بدنه أن يجاهد أعداء الله، أو يدعو إلى سبيل الله، شحيحا بجاهه، شحيحا بعلمه، ونصيحته ورأيه.
أولئك الذين بتلك الحالة لم يؤمنوا بسبب عدم إيمانهم، أحبط الله أعمالهم، وكان ذلك على الله يسيرا
وأما المؤمنون، فقد وقاهم الله، شح أنفسهم، ووفقهم لبذل ما أمروا به، من بذل لأبدانهم في القتال في سبيله، وإعلاء كلمته، وأموالهم للنفقة في طرق الخير، وجاههم وعلمهم.
(20) يحسبون الأحزاب لم يذهبوا أي: يظنون أن هؤلاء الأحزاب، الذين تحزبوا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، لم يذهبوا حتى يستأصلوهم، فخاب ظنهم، وبطل حسبانهم.
وإن يأت الأحزاب مرة أخرى يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم أي: لو أتى الأحزاب مرة ثانية مثل هذه المرة، ود هؤلاء المنافقون، أنهم ليسوا في المدينة، ولا في القرب منها، وأنهم مع الأعراب في البادية، يستخبرون عن أخباركم، ويسألون عن أنبائكم، ماذا حصل عليكم؟
فتبا لهم، وبعدا، فليسوا ممن يغالى بحضورهم فلو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا فلا تبالوهم، ولا تأسوا عليهم.
(21) لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة حيث حضر الهيجاء بنفسه الكريمة، وباشر موقف الحرب، وهو الشريف الكامل، والبطل الباسل، فكيف تشحون [ ص: 1379 ] بأنفسكم، عن أمر جاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنفسه فيه؟ فتأسوا به في هذا الأمر وغيره.
واستدل الأصوليون في هذه الآية على وأن الأصل أن أمته أسوته في الأحكام، إلا ما دل الدليل الشرعي على الاختصاص به. الاحتجاج بأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم،
فالأسوة نوعان: أسوة حسنة، وأسوة سيئة.
فالأسوة الحسنة، في الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن المتأسي به سالك الطريق الموصل إلى كرامة الله، وهو الصراط المستقيم، وأما الأسوة بغيره إذا خالفه فهو الأسوة السيئة، كقول المشركين حين دعتهم الرسل للتأسي بهم إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون .
وهذه الأسوة الحسنة، إنما يسلكها ويوفق لها من كان يرجو الله واليوم الآخر، فإن ذلك ما معه من الإيمان، وخوف الله، ورجاء ثوابه، وخوف عقابه، يحثه على التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم.
(22) لما ذكر حالة المنافقين عند الخوف، ذكر حال المؤمنين فقال: ولما رأى المؤمنون الأحزاب الذين تحزبوا، ونزلوا منازلهم، وانتهى الخوف، قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله في قوله: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب
وصدق الله ورسوله فإنا رأينا، ما أخبرنا به وما زادهم ذلك الأمر إلا إيمانا في قلوبهم وتسليما في جوارحهم، وانقيادا لأمر الله.
(23) ولما ذكر أن المنافقين عاهدوا الله، لا يولون الأدبار، ونقضوا ذلك العهد، ذكر وفاء المؤمنين به، فقال: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله أي: وفوا به، وأتموه، وأكملوه، فبذلوا مهجهم في مرضاته، وسبلوا أنفسهم في طاعته.
فمنهم من قضى نحبه أي: إرادته ومطلوبه، وما عليه من الحق، فقتل في سبيل الله، أو مات مؤديا لحقه، لم ينقصه شيئا.
ومنهم من ينتظر تكميل ما عليه، فهو شارع في قضاء ما عليه، ووفاء نحبه ولما يكمله، وهو في رجاء تكميله، ساع في ذلك، مجد.
وما بدلوا تبديلا كما بدل غيرهم، بل لم يزالوا على العهد، لا يلوون، ولا يتغيرون، فهؤلاء، الرجال على الحقيقة، ومن عداهم فصورهم صور رجال، وأما الصفات فقد قصرت عن صفات الرجال.
[ ص: 1380 ] (24) ليجزي الله الصادقين بصدقهم أي: بسبب صدقهم في أقوالهم، وأحوالهم، ومعاملتهم مع الله، واستواء ظاهرهم وباطنهم، قال الله تعالى: هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا الآية.
أي: قدرنا ما قدرنا، من هذه الفتن والمحن، والزلازل، ليتبين الصادق من الكاذب، فيجزي الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين الذين تغيرت قلوبهم وأعمالهم، عند حلول الفتن، ولم يفوا بما عاهدوا الله عليه.
إن شاء تعذيبهم، بأن لم يشأ هدايتهم، بل علم أنهم لا خير فيهم، فلم يوفقهم.
أو يتوب عليهم بأن يوفقهم للتوبة والإنابة، وهذا هو الغالب، على كرم الكريم، ولهذا ختم الآية باسمين دالين على المغفرة، والفضل، والإحسان فقال: إن الله كان غفورا رحيما غفورا لذنوب المسرفين على أنفسهم، ولو أكثروا من العصيان، إذا أتوا بالمتاب. رحيما بهم، حيث وفقهم للتوبة، ثم قبلها منهم، وستر عليهم ما اجترحوه.
(25) ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا أي: ردهم خائبين، لم يحصل لهم الأمر الذي كانوا حريصين عليه، مغتاظين قادرين عليه جازمين، بأن لهم الدائرة، قد غرتهم جموعهم، وأعجبوا بتحزبهم، وفرحوا بعددهم وعددهم، فأرسل الله عليهم ريحا عظيمة، وهي ريح الصبا، فزعزعت مراكزهم، وقوضت خيامهم، وكفأت قدورهم وأزعجتهم، وضربهم الله بالرعب، فانصرفوا بغيظهم، وهذا من نصر الله لعباده المؤمنين.
وكفى الله المؤمنين القتال بما صنع لهم من الأسباب العادية والقدرية، وكان الله قويا عزيزا لا يغالبه أحد إلا غلب، ولا يستنصره أحد إلا غلب، ولا يعجزه أمر أراده، ولا ينفع أهل القوة والعزة قوتهم وعزتهم، إن لم يعنهم بقوته وعزته.
(26) وأنزل الذين ظاهروهم أي: عاونوهم من أهل الكتاب أي: اليهود من صياصيهم أي: أنزلهم من حصونهم، نزولا مظفورا بهم، مجعولين تحت حكم الإسلام.
وقذف في قلوبهم الرعب فلم يقووا على القتال، بل استسلموا وخضعوا وذلوا. فريقا تقتلون وهم الرجال المقاتلون وتأسرون فريقا من عداهم من النساء والصبيان.
[ ص: 1381 ] (27) وأورثكم أي: غنمكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها أي: أرضا كانت من قبل، من شرفها وعزتها عند أهلها، لا تتمكنون من وطئها، فمكنكم الله وخذلهم، وغنمتم أموالهم، وقتلتموهم، وأسرتموهم، وكان الله على كل شيء قديرا لا يعجزه شيء، ومن قدرته قدر لكم ما قدر.
وكانت هذه الطائفة من أهل الكتاب، هم بنو قريظة من اليهود، في قرية خارج المدينة، غير بعيدة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم، حين هاجر إلى المدينة، وادعهم وهادنهم، فلم يقاتلهم ولم يقاتلوه، وهم باقون على دينهم، لم يغير عليهم شيئا، فلما رأوا يوم الخندق الأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله وكثرتهم، وقلة المسلمين، وظنوا أنهم سيستأصلون الرسول والمؤمنين، وساعد على ذلك، تدجيل بعض رؤسائهم عليهم، فنقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومالؤوا المشركين على قتاله، فلما خذل الله المشركين تفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقتالهم، فحاصرهم في حصنهم، فنزلوا على حكم رضي الله عنه، فحكم فيهم، أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم، فأتم الله لرسوله والمؤمنين، المنة، وأسبغ عليهم النعمة، وأقر أعينهم بخذلان من انخذل من أعدائهم، وقتل من قتلوا، وأسر من أسروا، ولم يزل لطف الله بعباده المؤمنين مستمرا. سعد بن معاذ