أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم [ ص: 190 ]
(259) هذان دليلان عظيمان محسوسان في الدنيا قبل الآخرة على واحد أجراه الله على يد رجل شاك في البعث على الصحيح، كما تدل عليه الآية الكريمة، والآخر على يد خليله البعث والجزاء، إبراهيم، كما أجرى دليل التوحيد السابق على يده، فهذا الرجل مر على قرية قد دمرت تدميرا، وخوت على عروشها، قد مات أهلها وخربت عمارتها، فقال- على وجه الشك والاستبعاد-: أنى يحيي هذه الله بعد موتها ؟، أي: ذلك بعيد، وهي في هذه الحال، يعني: وغيرها مثلها، بحسب ما قام بقلبه تلك الساعة، فأراد الله رحمته ورحمة الناس، حيث أماته الله مائة عام، وكان معه حمار، فأماته معه، ومعه طعام وشراب، فأبقاهما الله بحالهما كل هذه المدد الطويلة، فلما مضت الأعوام المائة، بعثه الله، فقال: كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم وذلك بحسب ما ظنه، فقال الله: بل لبثت مائة عام والظاهر أن هذه المجاوبة على يد بعض الأنبياء الكرام.
ومن تمام رحمة الله به وبالناس، أنه أراه الآية عيانا، ليقتنع بها، فبعدما عرف أنه ميت قد أحياه الله، قيل له: فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه أي: لم يتغير في هذه المدد الطويلة، وذلك من آيات قدرة الله، فإن الطعام والشراب- خصوصا ما ذكره المفسرون: أنه فاكهة وعصير- لا يلبث أن يتغير، وهذا قد حفظه الله مائة عام، وقيل له: وانظر إلى حمارك فإذا هو قد تمزق وتفرق وصار عظاما نخرة، وانظر إلى العظام كيف ننشزها أي: نرفع بعضها إلى بعض، ونصل بعضها ببعض، بعدما تفرقت، ثم نكسوها بعد الالتئام لحما ثم نعيد فيه الحياة، فلما تبين له رأي عين لا يقبل الريب بوجه من الوجوه، قال أعلم أن الله على كل شيء قدير فاعترف بقدرة الله على كل شيء، وصار آية للناس، لأنهم قد عرفوا موته وموت حماره، وعرفوا قضيته، ثم شاهدوا هذه الآية الكبرى، هذا هو الصواب في هذا الرجل.
وأما قول كثير من المفسرين: إن هذا الرجل مؤمن أو نبي من الأنبياء، إما عزير أو غيره، وأن قوله: أنى يحيي هذه الله بعد موتها يعني: كيف تعمر هذه القرية بعد أن كانت خرابا، وأن الله أماته، ليريه ما يعيد لهذه القرية من عمارتها بالخلق، وأنها عمرت في هذه المدة، وتراجع الناس إليها، وصارت عامرة، بعد أن كانت دامرة، فهذا لا يدل عليه اللفظ، بل ينافيه، ولا يدل عليه المعنى، فأي آية وبرهان، برجوع البلدان الدامرة إلى العمارة، وهذه لم تزل تشاهد، تعمر قرى ومساكن وتخرب [ ص: 191 ] أخرى، وإنما الآية العظيمة في إحيائه بعد موته، وإحياء حماره، وإبقاء طعامه وشرابه لم يتعفن ولم يتغير، ثم قوله: فلما تبين له صريح في أنه لم يتبين له إلا بعدما شاهد هذه الحال الدالة على كمال قدرته عيانا.
(260) وأما البرهان الآخر، فإن إبراهيم قال طالبا من الله أن يريه كيف يحيي الموتى، فقال الله له: أولم تؤمن ليزيل الشبهة عن خليله، قال إبراهيم: بلى يا رب، قد آمنت أنك على كل شيء قدير، وأنك تحيي الموتى، وتجازي العباد ، ولكن أريد أن يطمئن قلبي، وأصل إلى درجة عين اليقين، فأجاب الله دعوته، كرامة له، ورحمة بالعباد، قال فخذ أربعة من الطير ولم يبين أي الطيور هي، فالآية حاصلة بأي نوع منها، وهو المقصود، فصرهن إليك أي: ضمهن واذبحهن ومزقهن، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم ففعل ذلك، وفرق أجزاءهن على الجبال التي حوله، ودعاهن بأسمائهن، فأقبلن إليه، أي: سريعات، لأن السعي: السرعة، وليس المراد أنهن جئن على قوائمهن، وإنما جئن طائرات، على أكمل ما يكون من الحياة.
وخص الطيور بذلك، لأن إحياءهن أكمل وأوضح من غيرهن، وأيضا أزال في هذا كل وهم، ربما يعرض للنفوس المبطلة، فجعلهن متعددات أربعة، ومزقهن جميعا، وجعلهن على رؤوس الجبال، ليكون ذلك ظاهرا علنا، يشاهد من قرب ومن بعد، وأنه نحاهن عنه كثيرا، لئلا يظن أن يكون عاملا حيلة من الحيل، وأيضا أمره أن يدعوهن فجئن مسرعات، فصارت هذه الآية أكبر برهان على كمال عزة الله وحكمته.
وفيه تنبيه على أن البعث فيه يظهر للعباد كمال عزة الله وحكمته وعظمته وسعة سلطانه وتمام عدله وفضله.