يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون
(264 - 266) ضرب الله في هذه الآيات ثلاثة أمثلة: للمنفق ابتغاء وجهه ولم يتبع نفقته منا ولا أذى، ولمن أتبعها منا وأذى، وللمرائي.
فأما الأول، فإنه لما كانت نفقته مقبولة مضاعفة، لصدورها عن الإيمان والإخلاص التام ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم أي: ينفقون، وهم ثابتون على وجه السماحة والصدق، فمثل هذا العمل كمثل جنة بربوة وهو المكان المرتفع، لأنه يتبين للرياح والشمس، والماء فيها غزير، فإن لم يصبها ذلك الوابل الغزير، حصل طل كاف، لطيب منبتها، وحسن أرضها، وحصول جميع الأسباب الموفرة لنموها وازدهارها وإثمارها. ولهذا " آتت أكلها ضعفين " أي: متضاعفا، وهذه الجنة التي على هذا الوصف، هي أعلى ما يطلبه الناس، فهذا العمل الفاضل بأعلى المنازل.
وأما من أنفق لله، ثم أتبع نفقته منا وأذى، أو عمل عملا فأتى بمبطل لذلك العمل، فهذا مثله مثال صاحب هذه الجنة، لكن سلط عليها إعصار وهو الريح الشديدة فيه نار فاحترقت وله ذرية ضعفاء، وهو ضعيف قد أصابه الكبر.
فهذه الحال من أفظع الأحوال، ولهذا صدر هذا المثل بقوله: أيود أحدكم إلى آخرها بالاستفهام المتقرر عند المخاطبين فظاعته، فإن تلفها دفعة واحدة بعد زهاء أشجارها وإيناع ثمارها، مصيبة كبرى.
ثم حصول هذه الفاجعة - وصاحبها كبير قد ضعف عن العمل، وله ذرية ضعفاء، لا مساعدة منهم له، ومؤنتهم عليه- فاجعة أخرى، فصار صاحب هذا المثل، الذي عمل لله، ثم أبطل عمله بمناف له، يشبه حال صاحب الجنة التي جرى عليها ما جرى، حين اشتدت ضرورته إليها. [ ص: 194 ]
المثل الثالث: الذي يرائي الناس، وليس معه إيمان بالله، ولا احتساب لثوابه، حيث شبه قلبه بالصفوان، وهو الحجر الأملس، عليه تراب يظن الرائي أنه إذا أصابه المطر أنبت كما تنبت الأراضي الطيبة، ولكنه كالحجر الذي أصابه الوابل الشديد، فأذهب ما عليه من التراب، وتركه صلدا، وهذا مثل مطابق لقلب المرائي، الذي ليس فيه إيمان، بل هو قاس لا يلين ولا يخشع، فهذا أعماله ونفقاته لا أصل لها، تؤسس عليه، ولا غاية لها تنتهي إليها، بل ما عمله فهو باطل، لعدم شرطه.
والذي قبله بطل بعد وجود الشرط، لوجود المانع، والأول مقبول مضاعف، لوجود شرطه الذي هو الإيمان والإخلاص والثبات، وانتفاء الموانع المفسدة.
وهذه الأمثال الثلاثة، تنطبق على جميع العاملين، فليزن العبد نفسه وغيره بهذه الموازين العادلة والأمثال المطابقة. وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون .