إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما
[ ص: 382 ] يخبر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله من الشرع العظيم والأخبار الصادقة ما أوحى إلى هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وفي هذا عدة فوائد:
منها: أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس ببدع من الرسل، بل أرسل الله قبله من المرسلين العدد الكثير والجم الغفير فاستغراب رسالته لا وجه له إلا الجهل والعناد.
ومنها: أنه أوحى إليه كما أوحى إليهم من الأصول والعدل الذي اتفقوا عليه، وأن بعضهم يصدق بعضا ويوافق بعضهم بعضا.
ومنها: أنه من جنس هؤلاء الرسل، فليعتبره المعتبر بإخوانه المرسلين، فدعوته دعوتهم; وأخلاقهم متفقة; ومصدرهم واحد; وغايتهم واحدة، فلم يقرنه بالمجهولين; ولا بالكذابين ولا بالملوك الظالمين.
ومنها: أن في ذكر هؤلاء الرسل وتعدادهم من التنويه بهم، والثناء الصادق عليهم، وشرح أحوالهم مما يزداد به المؤمن إيمانا بهم ومحبة لهم، واقتداء بهديهم، واستنانا بسنتهم ومعرفة بحقوقهم، ويكون ذلك مصداقا لقوله: سلام على نوح في العالمين سلام على إبراهيم سلام على موسى وهارون سلام على إل ياسين إنا كذلك نجزي المحسنين .
فكل محسن له من الثناء الحسن بين الأنام بحسب إحسانه والرسل -خصوصا هؤلاء المسمون- في المرتبة العليا من الإحسان.
ولما ذكر اشتراكهم بوحيه ذكر تخصيص بعضهم فذكر أنه آتى داود الزبور وهو الكتاب المعروف المزبور الذي خص الله به داود عليه السلام لفضله وشرفه وأنه كلم موسى تكليما أي مشافهة منه إليه لا بواسطة حتى اشتهر بهذا عند العالمين فيقال "موسى كليم الرحمن".
(164) وذكر أن الرسل منهم من قصه الله على رسوله ومنهم من لم يقصصه عليه وهذا يدل على كثرتهم.(165) وأن الله أرسلهم مبشرين لمن أطاع الله واتبعهم بالسعادة الدنيوية والأخروية ومنذرين من عصى الله وخالفهم بشقاوة الدارين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فيقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير .
فلم يبق للخلق على الله حجة لإرساله الرسل تترى يبينون لهم أمر دينهم ومراضي ربهم ومساخطه وطرق الجنة وطرق النار فمن كفر منهم بعد ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
وهذا من كمال عزته تعالى وحكمته أن أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب وذلك أيضا من فضله وإحسانه حيث كان الناس مضطرين [ ص: 383 ] إلى الأنبياء أعظم ضرورة تقدر فأزال هذا الاضطرار فله الحمد وله الشكر ونسأله كما ابتدأ علينا نعمته بإرسالهم أن يتمها بالتوفيق لسلوك طريقهم إنه جواد كريم.