قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون
(136) هذه الآية الكريمة، قد اشتملت على جميع ما يجب الإيمان به.
واعلم أن وهو بهذا الاعتبار يدخل فيه الإسلام، وتدخل فيه الأعمال الصالحة كلها، فهي من الإيمان، وأثر من آثاره، فحيث أطلق الإيمان، دخل فيه ما ذكر، وكذلك الإسلام إذا أطلق دخل فيه الإيمان، فإذا قرن بينهما، كان الإيمان اسما لما في القلب من الإقرار والتصديق، والإسلام اسما للأعمال الظاهرة، وكذلك إذا جمع بين الإيمان والأعمال الصالحة. الإيمان الذي هو تصديق القلب التام، بهذه الأصول، وإقراره المتضمن لأعمال القلوب والجوارح،
فقوله تعالى: قولوا أي: بألسنتكم، متواطئة عليها قلوبكم، وهذا هو القول التام، المترتب عليه الثواب والجزاء، فكما أن النطق باللسان بدون اعتقاد القلب نفاق وكفر، فالقول الخالي من العمل عمل القلب، عديم التأثير، قليل الفائدة، وإن كان العبد يؤجر عليه، إذا كان خيرا ومعه أصل الإيمان، لكن فرق بين القول المجرد، والمقترن به عمل القلب.
وفي قوله: قولوا إشارة إلى الإعلان بالعقيدة، والصدع بها، والدعوة لها، إذ هي أصل الدين وأساسه.
وفي قوله: آمنا ونحوه مما فيه صدور الفعل، منسوبا إلى جميع الأمة، إشارة إلى أنه يجب على الأمة، الاعتصام بحبل الله جميعا، والحث [ ص: 96 ] على الائتلاف حتى يكون داعيهم واحدا، وعملهم متحدا، وفي ضمنه النهي عن الافتراق، وفيه: أن المؤمنين كالجسد الواحد.
وفي قوله: قولوا آمنا بالله إلخ، دلالة على جواز إضافة الإنسان إلى نفسه الإيمان، على وجه التقييد، بل على وجوب ذلك، بخلاف قوله: "أنا مؤمن" ونحوه، فإنه لا يقال إلا مقرونا بالاستثناء بالمشيئة، لما فيه من والشهادة على نفسه بالإيمان. تزكية النفس،
فقوله: آمنا بالله أي: بأنه موجود، واحد أحد، متصف بكل صفة كمال، منزه عن كل نقص وعيب، مستحق لإفراده بالعبادة كلها وعدم الإشراك به في شيء منها، بوجه من الوجوه.
وما أنزل إلينا يشمل القرآن والسنة لقوله تعالى: وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة فيدخل فيه ، من صفات الباري، وصفات رسله، واليوم الآخر، والغيوب الماضية والمستقبلة، والإيمان بما تضمنه ذلك من الأحكام الشرعية الأمرية، وأحكام الجزاء وغير ذلك. الإيمان بما تضمنه كتاب الله وسنة رسوله
وما أنزل إلى إبراهيم إلى آخر الآية، فيه ما نص عليه في الآية، لشرفهم ولإتيانهم بالشرائع الكبار. فالواجب في الإيمان بالأنبياء والكتب، أن يؤمن بهم على وجه العموم والشمول، ثم ما عرف منهم بالتفصيل، وجب الإيمان به مفصلا. الإيمان بجميع الكتب المنزلة على جميع الأنبياء، والإيمان بالأنبياء عموما وخصوصا،
وقوله: لا نفرق بين أحد منهم أي: بل نؤمن بهم كلهم، هذه خاصية المسلمين، التي انفردوا بها عن كل من يدعي أنه على دين، فاليهود والنصارى والصابئون وغيرهم - وإن زعموا أنهم يؤمنون بما يؤمنون به من الرسل والكتب - فإنهم يكفرون بغيره، فيفرقون بين الرسل والكتب، بعضها يؤمنون به وبعضها يكفرون به، وينقض تكذيبهم تصديقهم، فإن الرسول الذي زعموا، أنهم قد آمنوا به، قد صدق سائر الرسل وخصوصا محمدا صلى الله عليه وسلم، فإذا كذبوا محمدا، فقد كذبوا رسولهم فيما أخبرهم به، فيكون كفرا برسولهم.
وفي قوله: وما أوتي النبيون من ربهم دلالة على أن عطية الدين، هي العطية الحقيقية المتصلة بالسعادة الدنيوية والأخروية. لم يأمرنا أن نؤمن بما أوتي الأنبياء من الملك والمال ونحو ذلك، بل أمرنا أن نؤمن بما أعطوا من الكتب والشرائع.
وفيه أن ، ليس لهم من الأمر شيء. الأنبياء مبلغون عن الله، ووسائط بين الله [ ص: 97 ] وبين خلقه في تبليغ دينه
وفي قوله: من ربهم إشارة إلى أنه من كمال ربوبيته لعباده، أن ينزل عليهم الكتب، ويرسل إليهم الرسل، فلا تقتضي ربوبيته، تركهم سدى ولا هملا.
وإذا كان ما أوتي النبيون، إنما هو من ربهم، ففيه الفرق بين الأنبياء وبين من يدعي النبوة، وأنه يحصل الفرق بينهم بمجرد معرفة ما يدعون إليه، فالرسل لا يدعون إلا إلى لخير، ولا ينهون إلا عن كل شر، وكل واحد منهم، يصدق الآخر، ويشهد له بالحق، من غير تخالف ولا تناقض لكونه من عند ربهم ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا .
وهذا بخلاف من ادعى النبوة، فلا بد أن يتناقضوا في أخبارهم وأوامرهم ونواهيهم، كما يعلم ذلك من سبر أحوال الجميع، وعرف ما يدعون إليه.
فلما بين تعالى جميع ما يؤمن به، عموما وخصوصا، وكان القول لا يغني عن العمل قال: ونحن له مسلمون أي: خاضعون لعظمته، منقادون لعبادته، بباطننا وظاهرنا، مخلصون له العبادة بدليل تقديم المعمول، وهو له على العامل وهو مسلمون .
فقد اشتملت هذه الآية الكريمة - على إيجازها واختصارها - على أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، واشتملت على وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وعلى التخصيص الدال على الفضل بعد التعميم، وعلى التصديق بالقلب واللسان والجوارح والإخلاص لله في ذلك، وعلى الفرق بين الرسل الصادقين، ومن ادعى النبوة من الكاذبين، وعلى تعليم الباري عباده، كيف يقولون، ورحمته وإحسانه عليهم بالنعم الدينية المتصلة بسعادة الدنيا والآخرة، فسبحان من جعل كتابه تبيانا لكل شيء، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون. الإيمان بجميع الرسل، وجميع الكتب،