أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار
(19 -20 ) يقول تعالى : مفرقا بين أهل العلم والعمل وبين ضدهم : أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق : ففهم ذلك وعمل به . كمن هو أعمى : لا يعلم الحق ولا يعمل به ؛ فبينهما من الفرق كما بين السماء والأرض ؛ فحقيق بالعبد أن يتذكر ويتفكر ، أي الفريقين أحسن حالا وخير مآلا ، فيؤثر طريقها ، ويسلك خلف فريقها ، ولكن ما كل أحد يتذكر ما ينفعه ويضره . إنما يتذكر أولو الألباب : أي : أولو العقول الرزينة ، والآراء الكاملة ، الذين هم لب العالم ، وصفوة بني آدم ، فإن سألت عن وصفهم ؛فلا تجد أحسن من وصف الله لهم بقوله : الذين يوفون بعهد الله : الذي عهده إليهم والذي عاهدهم عليه من القيام بحقوقه كاملة موفرة ؛ فالوفاء بها توفيتها حقها من التتميم لها والنصح فيها ، ومن تمام الوفاء بها أنهم " لا ينقضون الميثاق " ؛ أي : العهد الذي عاهدوا عليه الله ، فدخل في ذلك جميع المواثيق والعهود والأيمان والنذور ، التي يعقدها العباد . فلا يكون العبد من أولي الألباب الذين لهم الثواب العظيم إلا بأدائها كاملة وعدم نقضها وبخسها .
(21 والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل : وهذا عام في كل ما أمر الله بوصله من الإيمان به وبرسوله ومحبته ومحبة رسوله ، والانقياد لعبادته وحده لا شريك له ، ولطاعة رسوله ، ويصلون آباءهم وأمهاتهم ببرهم بالقول والفعل وعدم عقوقهم ، ويصلون الأقارب والأرحام بالإحسان إليهم قولا وفعلا ، ويصلون ما بينهم وبين الأزواج والأصحاب والمماليك بأداء حقهم كاملا موفرا من الحقوق الدينية والدنيوية . والسبب الذي يجعل العبد واصلا ما أمر الله به أن يوصل خشية الله وخوف يوم الحساب ، ولهذا قال : ويخشون ربهم : أي : يخافونه ، فيمنعهم خوفهم منه ومن القدوم عليه يوم الحساب أن يتجرؤوا على معاصي الله أو يقصروا [ ص: 830 ] في شيء مما أمر الله به خوفا من العقاب ورجاء للثواب .
(22 والذين صبروا : على المأمورات بالامتثال ، وعن المنهيات بالانكفاف عنها والبعد منها ، وعلى أقدار الله المؤلمة بعدم تسخطها ، ولكن بشرط أن يكون ذلك الصبر ابتغاء وجه ربهم : لا لغير ذلك من المقاصد والأغراض الفاسدة ؛ فإن هذا الصبر النافع ، الذي يحبس به العبد نفسه ، طلبا لمرضاة ربه ورجاء للقرب منه والحظوة بثوابه ، وهو الصبر الذي من خصائص أهل الإيمان ، وأما الصبر المشترك الذي غايته التجلد ومنتهاه الفخر ؛ فهذا يصدر من البر والفاجر والمؤمن والكافر ؛ فليس هو الممدوح على الحقيقة . وأقاموا الصلاة : بأركانها وشروطها ومكملاتها ظاهرا وباطنا . وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية : دخل في ذلك النفقات الواجبة كالزكوات والكفارات والنفقات المستحبة ، وأنهم ينفقون حيث دعت الحاجة إلى النفقة سرا وعلانية . ويدرءون بالحسنة السيئة : أي : من أساء إليهم بقول أو فعل ، لم يقابلوه بفعله ، بل قابلوه بالإحسان إليه . فيعطون من حرمهم ، ويعفون عمن ظلمهم ، ويصلون من قطعهم ، ويحسنون إلى من أساء إليهم ، وإذا كانوا يقابلون المسيء بالإحسان ، فما ظنك بغير المسيء ؟ ! أولئك : الذين وصفت صفاتهم الجليلة ومناقبهم الجميلة ؛ لهم عقبى الدار .
(23 – 24 ) فسرها بقوله : جنات عدن ؛ أي : إقامة لا يزولون عنها ، ولا يبغون عنها حولا; لأنهم لا يرون فوقها غاية ؛ لما اشتملت عليه من ، ومن تمام نعيمهم وقرة أعينهم أنهم النعيم والسرور ، الذي تنتهي إليه المطالب والغايات يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم : من الذكور والإناث . وأزواجهم ؛ أي : الزوج أو الزوجة ، وكذلك النظراء والأشباه ، والأصحاب والأحباب ؛ فإنهم من أزواجهم وذرياتهم . والملائكة يدخلون عليهم من كل باب : يهنئونهم بالسلامة وكرامة الله لهم ويقولون : سلام عليكم : أي : حلت عليكم السلامة والتحية من الله وحصلت لكم ، وذلك متضمن لزوال كل مكروه ، ومستلزم لحصول كل محبوب . بما صبرتم ؛ أي : صبركم هو الذي أوصلكم إلى هذه المنازل العالية ، والجنان الغالية . فنعم عقبى الدار : فحقيق بمن نصح نفسه ، وكان لها عنده قيمة أن يجاهدها لعلها تأخذ من أوصاف أولي الألباب بنصيب [ ص: 831 ] ولعلها تحظى بهذه الدار التي هي منية النفوس وسرور الأرواح الجامعة لجميع اللذات والأفراح ؛ فلمثلها فليعمل العاملون ، وفيها فليتنافس المتنافسون .