وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب
[ ص: 852 ] (35 ) أي: ( و ) اذكر إبراهيم عليه الصلاة والسلام في هذه الحالة الجميلة، " إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد " أي: الحرم آمنا فاستجاب الله دعاءه شرعا وقدرا، فحرمه الله في الشرع ويسر من أسباب حرمته قدرا ما هو معلوم، حتى إنه لم يرده ظالم بسوء إلا قصمه الله كما فعل بأصحاب الفيل وغيرهم.
ولما دعا له بالأمن دعا له ولبنيه بالأمن فقال: واجنبني وبني أن نعبد الأصنام أي: اجعلني وإياهم جانبا بعيدا عن عبادتها والإلمام بها.
(36 ) ثم ذكر الموجب لخوفه عليه وعلى بنيه بكثرة من افتتن وابتلي بعبادتها فقال:
رب إنهن أضللن كثيرا من الناس .
أي: ضلوا بسببها، فمن تبعني على ما جئت به من التوحيد والإخلاص لله رب العالمين فإنه مني لتمام الموافقة، ومن أحب قوما وتبعهم التحق بهم.
ومن عصاني فإنك غفور رحيم وهذا من شفقة الخليل عليه الصلاة والسلام حيث دعا للعاصين بالمغفرة والرحمة من الله، والله تبارك وتعالى أرحم منه بعباده، لا يعذب إلا من تمرد عليه.
(37 ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم .
وذلك أنه أتى بهاجر أم إسماعيل وبابنها إسماعيل عليه الصلاة والسلام وهو في الرضاع، من الشام حتى وضعهما في مكة، وهي -إذ ذاك- ليس فيها سكن، ولا داع ولا مجيب، فلما وضعهما دعا ربه بهذا الدعاء فقال -متضرعا متوكلا على ربه: رب إني أسكنت من ذريتي أي: لا كل ذريتي؛ لأن إسحاق في الشام وباقي بنيه كذلك، وإنما أسكن في مكة إسماعيل وذريته، وقوله: بواد غير ذي زرع أي: لأن أرض مكة لا تصلح للزراعة.
ربنا ليقيموا الصلاة أي: اجعلهم موحدين مقيمين الصلاة؛ لأن إقامة الصلاة من أخص وأفضل العبادات الدينية، فمن أقامها كان مقيما لدينه، فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم أي: تحبهم وتحب الموضع الذي هم ساكنون فيه.
فأجاب الله دعاءه، فأخرج من ذرية إسماعيل محمدا صلى الله عليه وسلم حتى دعا ذريته إلى الدين الإسلامي وإلى ملة أبيهم إبراهيم، فاستجابوا له وصاروا مقيمي الصلاة.
وافترض الله حج هذا البيت الذي أسكن به ذريته [ ص: 853 ] إبراهيم، وجعل فيه سرا عجيبا جاذبا للقلوب، فهي تحجه ولا تقضي منه وطرا على الدوام، بل كلما أكثر العبد التردد إليه ازداد شوقه وعظم ولعه وتوقه، وهذا سر إضافته تعالى إلى نفسه المقدسة.
وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون فأجاب الله دعاءه، فصار يجبى إليه ثمرات كل شيء، فإنك ترى مكة المشرفة كل وقت، والثمار فيها متوفرة، والأرزاق تتوالى إليها من كل جانب.
(38 ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن .
أي: أنت أعلم بنا منا، فنسألك من تدبيرك وتربيتك لنا أن تيسر لنا من الأمور التي نعلمها والتي لا نعلمها ما هو مقتضى علمك ورحمتك، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ومن ذلك هذا الدعاء الذي لم يقصد به الخليل إلا الخير وكثرة الشكر لله رب العالمين.
(39 الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق .
فهبتهم من من الأولاد نعمة أخرى، وكونهم أنبياء صالحين أجل وأفضل، أكبر النعم، وكونهم على الكبر في حال الإياس إن ربي لسميع الدعاء أي: لقريب الإجابة ممن دعاه، وقد دعوته فلم يخيب رجائي.
(40 - 41 ) ثم دعا لنفسه ولذريته، فقال: رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب فاستجاب الله له في ذلك كله إلا أن دعاءه لأبيه إنما كان عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه .
ثم قال تعالى :