ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا
(57) يخبر تعالى أنه لا أعظم ظلما، ولا أكبر جرما، من عبد ذكر بآيات الله وبين له الحق من الباطل، والهدى من الضلال، وخوف ورهب ورغب، فأعرض عنها، فلم يتذكر بما ذكر به، ولم يرجع عما كان عليه، ونسي ما قدمت يداه من الذنوب، ولم يراقب علام الغيوب، فهذا أعظم ظلما من المعرض الذي لم تأته [ ص: 970 ] آيات الله ولم يذكر بها، وإن كان ظالما، فإنه أخف ظلما من هذا؛ لكون العاصي على بصيرة وعلم أعظم ممن ليس كذلك، ولكن الله تعالى عاقبه بسبب إعراضه عن آياته، ونسيانه لذنوبه، ورضاه لنفسه حالة الشر مع علمه بها أن سد عليه أبواب الهداية بأن جعل على قلبه أكنة؛ أي: أغطية محكمة تمنعه أن يفقه الآيات وإن سمعها، فليس في إمكانه الفقه الذي يصل إلى القلب، وفي آذانهم وقرا ؛ أي: صمما يمنعهم من وصول الآيات، ومن سماعها على وجه الانتفاع وإن كانوا بهذه الحالة، فليس لهدايتهم سبيل. وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا لأن الذي يرجى أن يجيب الداعي للهدى من ليس عالما، وأما هؤلاء الذين أبصروا ثم عموا، ورأوا طريق الحق فتركوه، وطريق الضلال فسلكوه، وعاقبهم الله بإقفال القلوب والطبع عليها، فليس في هدايتهم حيلة ولا طريق. وفي هذه الآية من التخويف لمن ترك الحق بعد علمه أن يحال بينه وبينه، ولا يتمكن منه بعد ذلك، ما هو أعظم مرهب وزاجر عن ذلك.
(58) ثم أخبر تعالى عن سعة مغفرته ورحمته، وأنه يغفر الذنوب، ويتوب الله على من يتوب، فيتغمده برحمته، ويشمله بإحسانه، وأنه لو آخذ العباد على ما قدمت أيديهم من الذنوب لعجل لهم العذاب، ولكنه تعالى حليم لا يعجل بالعقوبة، بل يمهل ولا يهمل، والذنوب لا بد من وقوع آثارها، وإن تأخرت عنها مدة طويلة، ولهذا قال: بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ؛ أي: لهم موعد، يجازون فيه بأعمالهم، لا بد لهم منه، ولا مندوحة لهم عنه، ولا ملجأ ولا محيد عنه. (59) وهذه سنته في الأولين والآخرين، أن لا يعاجلهم بالعقاب، بل يستدعيهم إلى التوبة والإنابة، فإن تابوا وأنابوا غفر لهم ورحمهم، وأزال عنهم العقاب، وإلا فإن استمروا على ظلمهم وعنادهم، وجاء الوقت الذي جعله موعدا لهم أنزل بهم بأسه، ولهذا قال: وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا ؛ أي: بظلمهم، لا بظلم منا وجعلنا لمهلكهم موعدا ؛ أي: وقتا مقدرا، لا يتقدمون عنه ولا يتأخرون.
[ ص: 971 ]