وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا
(64) استبطأ النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل - عليه السلام - مرة في نزوله إليه فقال له: "لو تأتينا أكثر مما تأتينا" -تشوقا إليه، وتوحشا لفراقه، وليطمئن قلبه بنزوله - فأنزل الله - تعالى - على لسان جبريل: وما نتنزل إلا بأمر ربك ؛ أي: ليس لنا من الأمر شيء، إن أمرنا ابتدرنا أمره، ولم نعص له أمرا، كما قال عنهم: لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون فنحن عبيد مأمورون، له ما بين أيدينا وما خلفنا [ ص: 1008 ] وما بين ذلك ؛ أي: له الأمور الماضية والمستقبلة والحاضرة في الزمان والمكان، فإذا تبين أن الأمر كله لله، وأننا عبيد مدبرون فيبقى الأمر دائرا بين: "هل تقتضيه الحكمة الإلهية فينفذه؟ أم لا تقتضيه فيؤخره"؟ ولهذا قال: وما كان ربك نسيا ؛ أي: لم يكن لينساك ويهملك، كما قال تعالى: ما ودعك ربك وما قلى بل لم يزل معتنيا بأمورك، مجريا لك على أحسن عوائده الجميلة، وتدابيره الجميلة.
أي: فإذا تأخر نزولنا عن الوقت المعتاد فلا يحزنك ذلك ولا يهمك، واعلم أن الله هو الذي أراد ذلك؛ لما له من الحكمة فيه.
(65) ثم علل إحاطة علمه، وعدم نسيانه بأنه رب السماوات والأرض فربوبيته للسماوات والأرض وكونهما على أحسن نظام وأكمله - ليس فيه غفلة ولا إهمال، ولا سدى، ولا باطل - برهان قاطع على علمه الشامل، فلا تشغل نفسك بذلك، بل اشغلها بما ينفعك ويعود عليك طائله، وهو: عبادته وحده لا شريك له، واصطبر لعبادته ؛ أي: اصبر نفسك عليها وجاهدها، وقم عليها أتم القيام وأكمله بحسب قدرتك، وفي الاشتغال بعبادة الله تسلية للعابد عن جميع التعلقات والمشتهيات، كما قال تعالى: ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه إلى أن قال: وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها الآية. هل تعلم له سميا ؛ أي: هل تعلم لله مساميا ومشابها ومماثلا من المخلوقين؟ وهذا استفهام بمعنى النفي المعلوم بالعقل. أي: لا تعلم له مساميا ولا مشابها؛ لأنه الرب وغيره مربوب، الخالق وغيره مخلوق، الغني من جميع الوجوه وغيره فقير بالذات من كل وجه، الكامل الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه وغيره ناقص ليس فيه من الكمال إلا ما أعطاه الله تعالى، فهذا برهان قاطع على أن الله هو المستحق لإفراده بالعبودية، وأن عبادته حق، وعبادة ما سواه باطل، فلهذا أمر بعبادته وحده، والاصطبار لها، وعلل ذلك بكماله وانفراده بالعظمة والأسماء الحسنى.