ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين
[ ص: 1071 ] (51) لما ذكر تعالى موسى ومحمدا - صلى الله عليهما وسلم - وكتابيهما قال: ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل ؛ أي: من قبل إرسال موسى ومحمد ونزول كتابيهما، فأراه الله ملكوت السماوات والأرض، وأعطاه من الرشد - الذي كمل به نفسه، ودعا الناس إليه - ما لم يؤته أحدا من العالمين، غير محمد، وأضاف الرشد إليه؛ لكونه رشدا بحسب حاله، وعلو مرتبته، وإلا فكل مؤمن له من الرشد بحسب ما معه من الإيمان. وكنا به عالمين ؛ أي: أعطيناه رشده، واختصصناه بالرسالة والخلة، واصطفيناه في الدنيا والآخرة؛ لعلمنا أنه أهل لذلك، وكفء له، لزكائه وذكائه. ولهذا ذكر محاجته لقومه، ونهيهم عن الشرك، وتكسير الأصنام، وإلزامهم بالحجة، فقال: (52) إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي مثلتموها، ونحتموها بأيديكم، على صور بعض المخلوقات التي أنتم لها عاكفون مقيمون على عبادتها، ملازمون لذلك، فما هي؟ وأي فضيلة ثبتت لها؟ وأين عقولكم التي ذهبت حتى أفنيتم أوقاتكم بعبادتها؟ والحال أنكم مثلتموها، ونحتموها بأيديكم، فهذا من أكبر العجائب، تعبدون ما تنحتون.
(53) فأجابوا بغير حجة جواب العاجز، الذي ليس بيده أدنى شبهة فقالوا: وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، فسلكنا سبيلهم، وتبعناهم على عبادتها!! ومن المعلوم أن فعل أحد من الخلق سوى الرسل ليس بحجة، ولا تجوز به القدوة، خصوصا في أصل الدين، وتوحيد رب العالمين. (54) ولهذا قال لهم إبراهيم مضللا للجميع: لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين أي: ضلال بين واضح، وأي ضلال أبلغ من ضلالهم في الشرك وترك التوحيد؟! أي: فليس ما قلتم يصلح للتمسك به، وقد اشتركتم وإياهم في الضلال الواضح البين لكل أحد.
[ ص: 1072 ] (55) قالوا على وجه الاستغراب لقوله، والاستعظام لما قال، وكيف بادأهم بتسفيههم، وتسفيه آبائهم: أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين أي: هذا القول الذي قلته، والذي جئتنا به، هل هو حق وجد أم كلامك لنا كلام لاعب مستهزئ، لا يدري ما يقول؟ وهذا الذي أرادوا، وإنما رددوا الكلام بين الأمرين؛؛ لأنهم نزلوه منزلة المتقرر المعلوم عند كل أحد، أن الكلام الذي جاء به إبراهيم كلام سفيه لا يعقل ما يقول. (56) فرد عليهم إبراهيم ردا بين به وجه سفههم، وقلة عقولهم فقال: بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين فجمع لهم بين الدليل العقلي والدليل السمعي:
أما الدليل العقلي فإنه قد علم كل أحد - حتى هؤلاء الذين جادلهم إبراهيم - أن الله وحده الخالق لجميع المخلوقات، من بني آدم والملائكة والجن والبهائم والسماوات والأرض، المدبر لهن بجميع أنواع التدبير، فيكون كل مخلوق مفطورا مدبرا متصرفا فيه، ودخل في ذلك جميع ما عبد من دون الله، أفيليق عند من له أدنى مسكة من عقل وتمييز أن يعبد مخلوقا متصرفا فيه، لا يملك نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، ويدع عبادة الخالق الرازق المدبر؟
أما الدليل السمعي: فهو المنقول عن الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإن ما جاءوا به معصوم، لا يغلط ولا يخبر بغير الحق، ومن أنواع هذا القسم شهادة أحد من الرسل على ذلك، فلهذا قال إبراهيم: وأنا على ذلكم ؛ أي: أن الله وحده المعبود وأن عبادة ما سواه باطل من الشاهدين وأي شهادة بعد شهادة الله أعلى من شهادة الرسل؟ خصوصا أولي العزم منهم، خصوصا خليل الرحمن.
(57) ولما بين أن أصنامهم ليس لها من التدبير شيء، أراد أن يريهم بالفعل عجزها وعدم انتصارها، وليكيد كيدا يحصل به إقرارهم بذلك فلهذا قال: وتالله لأكيدن أصنامكم ؛ أي: أكسرها على وجه الكيد بعد أن تولوا مدبرين عنها إلى عيد من أعيادهم. (58) فلما تولوا مدبرين ذهب إليها بخفية فجعلهم جذاذا أي كسرا [ ص: 1073 ] وقطعا، وكانت مجموعة في بيت واحد، فكسرها كلها، إلا كبيرا لهم ؛ أي: إلا صنمهم الكبير، فإنه تركه لمقصد سيبينه. وتأمل هذا الاحتراز العجيب، فإن كل ممقوت عند الله لا يطلق عليه ألفاظ التعظيم، إلا على وجه إضافته لأصحابه، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كتب إلى ملوك الأرض المشركين يقول: «إلى عظيم الفرس ...» «إلى عظيم الروم ...» ونحو ذلك، ولم يقل: إلى العظيم، وهنا قال تعالى: إلا كبيرا لهم ولم يقل: «كبيرا من أصنامهم» فهذا ينبغي التنبيه له، والاحتراز من تعظيم ما حقره الله، إلا إذا أضيف إلى من عظمه. وقوله: لعلهم إليه يرجعون ؛ أي: ترك إبراهيم تكسير صنمهم هذا لأجل أن يرجعوا إليه، ويستملوا حجته، ويلتفتوا إليها، ولا يعرضوا عنها، ولهذا قال في آخرها: فرجعوا إلى أنفسهم .
(59) فحين رأوا ما حل بأصنامهم من الإهانة والخزي قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين فرموا إبراهيم بالظلم - الذي هم أولى به - حيث كسرها ولم يدروا أن تكسيره لها من أفضل مناقبه ومن عدله وتوحيده، وإنما الظالم من اتخذها آلهة، وقد رأى ما يفعل بها. (60) قالوا سمعنا فتى يذكرهم - أي: يعيبهم ويذمهم، ومن هذا شأنه لا بد أن يكون هو الذي كسرها، أو أن بعضهم سمعه يذكر أنه سيكيدها - يقال له إبراهيم . (61) فلما تحققوا أنه إبراهيم قالوا فأتوا به أي: بإبراهيم على أعين الناس أي بمرأى منهم ومسمع لعلهم يشهدون أي: يحضرون ما يصنع بمن كسر آلهتهم، وهذا الذي أراد إبراهيم وقصد أن يكون بيان الحق بمشهد من الناس؛ ليشاهدوا الحق وتقوم عليهم الحجة، كما قال موسى حين واعد فرعون: موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى .
(62) فحين حضر الناس وأحضر إبراهيم قالوا له: أأنت فعلت هذا أي: التكسير بآلهتنا يا إبراهيم ؟ وهذا استفهام تقرير، أي: فما الذي جرأك، وما الذي أوجب لك الإقدام على هذا الأمر؟
(63) فقال إبراهيم والناس شاهدون: بل فعله كبيرهم هذا أي: كسرها [ ص: 1074 ] غضبا عليها، لما عبدت معه، وأراد أن تكون العبادة منكم لصنمكم الكبير وحده، وهذا الكلام من إبراهيم المقصد منه إلزام الخصم وإقامة الحجة عليه، ولهذا قال: فاسألوهم إن كانوا ينطقون وأراد الأصنام المكسرة اسألوها لم كسرت؟ والصنم الذي لم يكسر اسألوه لأي شيء كسرها، إن كان عندهم نطق فسيجيبونكم إلى ذلك، وأنا وأنتم وكل أحد يدري أنها لا تنطق ولا تتكلم، ولا تنفع ولا تضر، بل ولا تنصر نفسها ممن يريدها بأذى.
(64) فرجعوا إلى أنفسهم أي: ثابت عليهم عقولهم، ورجعت إليهم أحلامهم، وعلموا أنهم ضالون في عبادتها، وأقروا على أنفسهم بالظلم والشرك، فقالوا إنكم أنتم الظالمون فحصل بذلك المقصود، ولزمتهم الحجة بإقرارهم أن ما هم عليه باطل، وأن فعلهم كفر وظلم. (65) ولكن لم يستمروا على هذه الحالة، ولكن نكسوا على رءوسهم أي: انقلب الأمر عليهم، وانتكست عقولهم، وضلت أحلامهم، فقالوا لإبراهيم: لقد علمت ما هؤلاء ينطقون فكيف تهكم بنا وتستهزئ بنا وتأمرنا أن نسألها وأنت تعلم أنها لا تنطق؟
(66) فقال إبراهيم - موبخا لهم ومعلنا بشركهم على رؤوس الأشهاد، ومبينا عدم استحقاق آلهتهم للعبادة-: أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم فلا نفع ولا دفع.
(67) أف لكم ولما تعبدون من دون الله أي: ما أضلكم وأخسر صفقتكم، وما أخسكم، أنتم وما عبدتم من دون الله!! إن كنتم تعقلون عرفتم هذه الحال، فلما عدمتم العقل وارتكبتم الجهل والضلال على بصيرة، صارت البهائم أحسن حالا منكم.
(68) فحينئذ لما أفحمهم، ولم يبينوا حجة، استعملوا قوتهم في معاقبته، فـ قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين أي: اقتلوه أشنع القتلات بالإحراق؛ غضبا لآلهتكم ونصرة لها، فتعسا لهم تعسا، حيث عبدوا من أقروا أنه يحتاج إلى نصرهم، واتخذوه إلها!! (69) فانتصر الله لخليله لما ألقوه في النار، وقال لها: كوني بردا وسلاما على إبراهيم فكانت عليه بردا وسلاما، لم ينله فيها أذى، ولا أحس بمكروه.
(70) وأرادوا به كيدا حيث عزموا على إحراقه، فجعلناهم الأخسرين أي: في الدنيا والآخرة، كما جعل الله خليله وأتباعه هم الرابحين المفلحين.
(71) ونجيناه ولوطا وذلك أنه لم يؤمن به من قومه إلا لوط - عليه السلام - قيل: إنه ابن أخيه، فنجاه الله، وهاجر إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين أي: الشام، فغادر قومه في "بابل" من أرض العراق، وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم ومن بركة الشام أن كثيرا من الأنبياء كانوا فيها، وأن الله اختارها مهاجرا لخليله، وفيها أحد بيوته الثلاثة المقدسة، وهو بيت المقدس.
(72) ووهبنا له حين اعتزل قومه إسحاق ويعقوب ابن إسحاق نافلة بعدما كبر، وكانت زوجته عاقرا، فبشرته الملائكة بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب ويعقوب هو إسرائيل، الذي كانت منه الأمة العظيمة، وإسماعيل بن إبراهيم الذي كانت منه الأمة الفاضلة العربية، ومن ذريته سيد الأولين والآخرين. وكلا من إبراهيم وإسحاق ويعقوب جعلنا صالحين أي: قائمين بحقوقه، وحقوق عباده. (73) ومن صلاحهم أنه جعلهم أئمة يهدون بأمره، وهذا من أكبر نعم الله على عبده أن يكون إماما يهتدي به المهتدون، ويمشي خلفه السالكون، وذلك لما صبروا وكانوا بآيات الله يوقنون.
وقوله: يهدون بأمرنا أي: يهدون الناس بديننا، لا يأمرون بأهواء أنفسهم، بل بأمر الله ودينه، واتباع مرضاته، ولا يكون العبد إماما حتى يدعو إلى أمر الله.
وأوحينا إليهم فعل الخيرات يفعلونها ويدعون الناس إليها، وهذا شامل لجميع الخيرات كلها، من حقوق الله وحقوق العباد، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة هذا من باب عطف الخاص على العام؛ لشرف هاتين العبادتين وفضلهما؛ ولأن من كملهما كما أمر كان قائما بدينه، ومن ضيعهما كان لما سواهما أضيع؛ ولأن الصلاة أفضل الأعمال التي فيها حقه، والزكاة أفضل الأعمال التي فيها الإحسان لخلقه.
وكانوا لنا أي: لا لغيرنا عابدين ؛ أي: مديمين على العبادات القلبية [ ص: 1076 ] والقولية والبدنية في أكثر أوقاتهم، فاستحقوا أن تكون العبادة وصفهم، فاتصفوا بما أمر الله به الخلق، وخلقهم لأجله.