ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون. وترى كل أمة جاثية. كل أمة تدعى إلى كتابها. اليوم تجزون ما كنتم تعملون. هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون. فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته. ذلك هو الفوز المبين. وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين؟ وإذا قيل: إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها. قلتم: ما ندري ما الساعة، إن نظن إلا ظنا، وما نحن بمستيقنين. وبدا لهم سيئات ما عملوا، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون. وقيل: اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا، ومأواكم النار، وما لكم من ناصرين: ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون ..
[ ص: 3221 ] كذلك لم يدع أي لبس أو شك في عدالة الجزاء وفردية التبعة; فبين أن هذا الأصل عميق في تكوين الوجود كله، وعليه يقوم هذا الوجود. ذلك حين يقول:
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها، ثم إلى ربكم ترجعون ..
وحين يرد على من يحسبون وهم يجترحون السيئات أنهم عند الله كالمؤمنين الذين يعملون الصالحات، فيقول:
وخلق الله السماوات والأرض بالحق، ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون ..
والسورة كلها وحدة في علاج موضوعها; ولكننا قسمناها إلى درسين اثنين لتيسير عرضها وتفصيلها.
وهي تبدأ بالأحرف المقطعة: " حا. ميم " . والإشارة إلى القرآن الكريم: تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم .. وتختم بحمد الله وربوبيته المطلقة، وتمجيده وتعظيمه إزاء أولئك الذين يغفلون عن آياته ويستهزئون بها ويستكبرون عنها: فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين. وله الكبرياء في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم ..
ويسير سياق السورة في عرض موضوعها في يسر وهوادة وإيضاح هادئ، وبيان دقيق عميق. على غير ما يسير سياق سورة الدخان قبلها في إيقاع عنيف كأنه مطارق تقرع القلوب.
والله خالق القلوب، ومنزل هذا القرآن، يأخذ القلوب تارة بالقرع والطرق. وتارة باللمس الناعم الرفيق، وتارة بالبيان الهادئ الرقيق. حسب تنوعها هي واختلافها. وحسب تنوع حالاتها ومواقفها في ذاتها. وهو اللطيف الخبير. وهو العزيز الحكيم..
والآن نأخذ في التفصيل
حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم. إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين. وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون. واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها، وتصريف الرياح، آيات لقوم يعقلون ..
يذكر الحرفين: " حا. ميم " ويذكر بعدهما تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم. وفيهما دلالة على مصدر الكتاب، كما أسلفنا الحديث عن الأحرف المقطعة في أوائل السور. من ناحية أن هذا الكتاب المعجز مصوغ من مثل هذه الأحرف، وهم لا يقدرون على شيء منه، فهذه دلالة قائمة على أن تنزيل هذا الكتاب من الله العزيز القادر الذي لا يعجزه شيء. الحكيم الذي يخلق كل شيء بقدر، ويمضي كل أمر بحكمة. وهو تعقيب يناسب جو السورة وما تتعرض له من ألوان النفوس.
وقبل أن يعرض للقوم وموقفهم من هذا الكتاب; يشير إلى آيات الله المبثوثة في الكون من حولهم. وقد كانت وحدها كفيلة بتوجيههم إلى الإيمان. ويوجه قلوبهم إليها لعلها توقظها وتفتح مغاليقها، وتستجيش فيها الحساسية بالله منزل هذا الكتاب.، وخالق هذا الكون العظيم:
إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين ..
والآيات المبثوثة في السماوات والأرض لا تقتصر على شيء دون شيء، ولا حال دون حال. فحيثما مد الإنسان ببصره وجد آيات الله تطالعه في هذا الكون العجيب..
وأي شيء ليس آية؟
[ ص: 3222 ] هذه السماوات بأجرامها الضخمة، وأفلاكها الهائلة، وهي - على ضخامتها - مبعثرة كالنثار الصغير في الفضاء.. الفضاء الهائل الرهيب.. الجميل..!
ودورة هذه الأجرام في أفلاكها في دقة واطراد وتناسق.. تناسق جميل لا تشبع العين من النظر إليه، ولا يشبع القلب من تمليه!
وهذه الأرض الواسعة العريضة بالقياس إلى البشر، وهي ذرة، أو هباءة بالقياس إلى النجوم الكبيرة. ثم بالقياس إلى هذا الفضاء الذي تتوه فيه.. تتوه لولا القدرة التي تمسك بها وتنتظمها في العقد الكوني الذي لا يتوه شيء فيه!
وما أودعه الله طبيعة هذه الأرض في موقعها الكوني الخاص من صلاحية لنشوء الحياة فوقها، ومن خصائص دقيقة مقصودة متراكبة متجمعة متناسقة. لو اختلت خصيصة واحدة منها أو خلفت ما أمكن أن تقوم فيها الحياة أو تدوم!
وكل شيء في هذه الأرض وكل حي.. آية.. وكل جزء من كل شيء ومن كل حي في هذه الأرض.. آية.. والصغير الدقيق كالضخم الكبير.. آية.. هذه الورقة الصغيرة في هذه الشجرة الضخمة أو النبتة الهزيلة.. آية.. آية في شكلها وحجمها، آية في لونها وملمسها. آية في وظيفتها وتركيبها. وهذه الشعرة في جسم الحيوان أو الإنسان.. آية.. آية في خصائصها ولونها وحجمها. وهذه الريشة في جناح الطائر.. آية.. آية في مادتها وتنسيقها ووظيفتها. وحيثما مد الإنسان ببصره في الأرض أو في السماء تزاحمت الآيات وتراكبت، وأعلنت عن نفسها لقلبه وسمعه وبصره.
ولكن، من الذي يرى هذه الآيات ويستشعرها؟ لمن تعلن هذه الآيات عن نفسها؟ لمن؟
" للمؤمنين " ..
فالإيمان هو الذي يفتح القلوب لتلقي الأصداء والأضواء والأنداء; والإحساس بما فيها من آيات الله المبثوثة في الأرض والسماء. والإيمان هو الذي تخالط القلوب بشاشته فتحيا وترق وتلطف; وتلتقط ما يذخر به الكون من إيحاءات خفية وظاهرة، تشير كلها إلى اليد الصانعة، وطابعها المميز في كل ما تصوغه وتبدعه من أشياء ومن أحياء. وكل ما خرج من هذه اليد فهو خارق معجز لا يقدر على إبداعه أحد من خلق الله.
ثم ينتقل بهم السياق من آفاق الكون إلى ذوات أنفسهم; وهي أقرب إليهم، وهم بها أكثر حساسية:
وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون ..
وخلق هذا الإنسان بهذا التكوين العجيب، وبهذه الخصائص الفريدة، وبهذه الوظائف اللطيفة الدقيقة المتنوعة الكثيرة. خارقة. خارقة نسيناها لطول تكرارها، ولقربها منا! ولكن التركيب العضوي لجارحة واحدة من جوارح هذا الإنسان مسألة تدير الرأس عجبا ودهشة واستهوالا لهذا التركيب العجيب!
إن الحياة في أبسط صورها معجزة. في الإميبا ذات الخلية الواحدة. وفيما هو أصغر من الإميبا! فكيف بها في هذا الإنسان الشديد التركيب والتعقيد؟ وهو في تركيبه النفسي أشد تركبا وتعقدا من تركيبه العضوي!
وحوله تلك الخلائق التي تدب على الأرض أنواعا وأجناسا وأشكالا وأحجاما، لا يحصيها إلا الله.
وأصغرها كأكبرها معجز في خلقه. معجز في تصريفه. معجز في تناسب حيواته على هذه الأرض، بحيث [ ص: 3223 ] لا يزيد جنس عن حدود معينة، تحفظ وجوده وامتداده، وتمنع طغيانه على الأجناس الأخرى طغيان إبادة وإفناء. واليد الممسكة بزمام الأنواع والأجناس تزيد فيها وتنقص بحكمة وتقدير; وتركب في كل منها من الخصائص والقوى والوظائف ما يحفظ التوازن بينها جميعا..
النسور جارحة ضارية وعمرها مديد. ولكنها في مقابل هذا نزرة قليلة البيض والفراخ بالقياس إلى العصافير والزرازير.. ولنا أن نتصور كيف كان الأمر يكون لو كان للنسور نسل العصافير؟ وكيف كانت تقضي على جميع الطيور!
والأسود كذلك في عالم الحيوان كاسرة ضارية. فكيف لو كانت تنسل كالظباء والشاء؟ إنها ما كانت تبقي على لحم في الغابة ولا غذاء.. ولكن اليد التي تمسك بالزمام تجعل نسلها محدودا بالقدر المطلوب! وتكثر من ذوات اللحوم من الظباء والشاء وما إليها لسبب معلوم.
والذبابة الواحدة تبيض في الدورة الواحدة مئات الألوف.. وفي مقابل هذا لا تعيش إلا حوالي أسبوعين اثنين. فكيف لو أفلت الزمام فعاشت الذبابة الواحدة أشهرا أو سنين؟ لكان الذباب يغطي الأجسام ويأكل العيون؟ ولكن اليد المدبرة هناك تضبط الأمور وفق تقدير دقيق محسوب فيه حساب كل الحاجات والأحوال والظروف.
وهكذا وهكذا. في الخلق ذاته. وفي خصائصه. وفي تدبيره وتقديره. في عالم الناس، وعالم الدواب.. في هذا كله آيات. آيات ناطقة. ولكن لمن؟ من الذي يراها ويتدبرها ويدركها؟
لقوم يوقنون ..
واليقين هو الحالة المهيئة للقلوب كي تحس، وكي تتأثر، وكي تنيب.. اليقين الذي يدع القلوب تقر وتثبت وتطمئن; وتتلقى حقائق الكون في هدوء ويسر وثقة، وفي راحة من القلق والحيرة والزعزعة. فتصوغ من أقل ما تحصل، أكبر النتائج وأعظم الآثار في هذا الوجود.
ثم ينتقل بهم من ذوات أنفسهم وحركة الأحياء حولهم، إلى الظواهر الكونية، وما ينشأ عنها من أسباب الحياة لهم وللأحياء جميعا:
واختلاف الليل والنهار، وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها، وتصريف الرياح، آيات لقوم يعقلون ..
واختلاف الليل والنهار ظاهرتان قد يخلق جدتهما في نفوس البشر التكرار! ولكن أية عجيبة تطالع الحس البشري وهو يواجه الليل أول مرة أو يواجه النهار؟ إن القلب الشاعر المتفتح يرى هذه العجيبة دائما; وينتفض لها دائما ويرى يد الله التي تدير الكون كله كلما رأى الليل والنهار.
وتنمو معارف البشر، ويتسع علمهم عن بعض الظواهر الكونية، ويعرفون أن الليل والنهار ظاهرتان تنشآن عن دورة الأرض حول محورها أمام الشمس مرة في كل أربع وعشرين ساعة. ولكن العجيبة لا تنقص شيئا بهذه المعرفة. فإن دورة الأرض هذه عجيبة أخرى. دورة هذا الجرم حول نفسه بهذه السرعة المنتظمة، وهو عائم في الهواء، سابح في الفضاء، غير مستند إلى شيء إلا إلى القدرة التي تمسك به وتديره كما شاءت بهذا النظام الذي لا يتخلف، وبهذا القدر الذي يسمح للأحياء والأشياء أن تظل على سطح هذا الكوكب السابح السارح الدائر في الفضاء!
ويتوسع البشر في علمهم فيدركون أهمية هاتين الظاهرتين على سطح الأرض بالقياس إلى الحياة والأحياء; [ ص: 3224 ] ويعرفون أن تقسيم الأوقات بين الليل والنهار بهذه النسبة على سطح هذا الكوكب عامل رئيسي لوجود الحياة وبقاء الأحياء; وأنه لو لم توجد هاتان الظاهرتان بهذا القدر وعلى هذا النظام لتغير كل شيء على هذه الأرض، وبخاصة تلك الحياة الإنسانية التي تخص المخاطبين. من الأحياء! ومن ثم تزداد هاتان الظاهرتان أهمية في الحس البشري ولا تنقصان!