وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن، فلما حضروه قالوا: أنصتوا. فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين ..
لقد كان إذن تدبيرا من الله أن يصرف هؤلاء النفر من الجن إلى استماع القرآن، لا مصادفة عابرة. وكان في تقدير الله أن تعرف الجن نبأ الرسالة الأخيرة كما عرفت من قبل رسالة موسى; وأن يؤمن فريق منهم وينجو من النار المعدة لشياطين الجن كما هي معدة لشياطين الإنس.
ويرسم النص مشهد هذا النفر - وهم ما بين ثلاثة وعشرة - وهم يستمعون إلى هذا القرآن، ويصور لنا ما وقع في حسهم منه، من الروعة والتأثر والرهبة والخشوع. فلما حضروه قالوا: أنصتوا .. وتلقي هذه الكلمة ظلال الموقف كله طوال مدة الاستماع.
فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين ..
وهذه كتلك تصور الأثر الذي انطبع في قلوبهم من الإنصات للقرآن. فقد استمعوا صامتين منتبهين حتى النهاية. فلما انتهت التلاوة لم يلبثوا أن سارعوا إلى قومهم، وقد حملت نفوسهم ومشاعرهم منه ما لا تطيق السكوت عليه، أو التلكؤ في إبلاغه والإنذار به. وهي حالة من امتلأ حسه بشيء جديد، وحفلت مشاعره بمؤثر قاهر غلاب، يدفعه دفعا إلى الحركة به والاحتفال بشأنه، وإبلاغه للآخرين في جد واهتمام:
قالوا: يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى، مصدقا لما بين يديه، يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ..
ولوا إلى قومهم مسارعين يقولون لهم: إنا سمعنا كتابا جديدا أنزل من بعد موسى، يصدق كتاب موسى في [ ص: 3274 ] أصوله. فهم إذن كانوا يعرفون كتاب موسى، فأدركوا الصلة بين الكتابين بمجرد سماع آيات من هذا القرآن، قد لا يكون فيها ذكر لموسى ولا لكتابه، ولكن طبيعتها تشي بأنها من ذلك النبع الذي نبع منه كتاب موسى. وشهادة هؤلاء الجن البعيدين - نسبيا - عن مؤثرات الحياة البشرية، بمجرد تذوقهم لآيات من القرآن، ذات دلالة وذات إيحاء عميق.
ثم عبروا عما خالج مشاعرهم منه، وما أحست ضمائرهم فيه، فقالوا عنه:
يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ..
ووقع الحق والهدى في هذا القرآن هائل ضخم، لا يقف له قلب غير مطموس; ولا تصمد له روح غير معاندة ولا مستكبرة ولا مشدودة بالهوى الجامح اللئيم. ومن ثم لمس هذه القلوب لأول وهلة، فإذا هي تنطق بهذه الشهادة، وتعبر عما مسها منه هذا التعبير.
ثم مضوا في نذارتهم لقومهم في حماسة المقتنع المندفع، الذي يحس أن عليه واجبا في النذارة لا بد أن يؤديه:
يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به، يغفر لكم من ذنوبكم، ويجركم من عذاب أليم ..
فقد اعتبروا نزول هذا الكتاب إلى الأرض دعوة من الله لكل من بلغته من إنس وجن; واعتبروا محمدا - صلى الله عليه وسلم - داعيا لهم إلى الله بمجرد تلاوته لهذا القرآن واستماع الثقلين له: فنادوا قومهم: يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ..
وآمنوا كذلك بالآخرة، وعرفوا أن الإيمان والاستجابة لله يكون معهما غفران الذنب والإجارة من العذاب. فبشروا وأنذروا بهذا الذي عرفوه.
ويروي أن مقالة الجن انتهت عند هذه الآية. ولكن السياق يوحي بأن الآيتين التاليتين هما من مقولات النفر أيضا. ونحن نرجح هذا وبخاصة الآية التالية: ابن إسحاق
ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض، وليس له من دونه أولياء. أولئك في ضلال مبين ..
فهي تكملة طبيعية لنذارة النفر لقومهم فقد دعوهم إلى الاستجابة والإيمان. فالاحتمال قوي وراجح أن يبينوا لهم أن عدم الاستجابة وخيم العاقبة. وأن الذي لا يستجيب لا يعجز الله أن يأتي به ويوقع عليه الجزاء. ويذيقه العذاب الأليم; فلا يجد له من دون الله أولياء ينصرونه أو يعينونه. وأن هؤلاء المعرضين ضالون ضلالا بينا عن الصراط المستقيم.
وكذلك الآية التي بعدها يحتمل كثيرا أن تكون من كلامهم، تعجيبا من أولئك الذين لا يستجيبون لله; حاسبين أنهم سيفلتون، أو أنه ليس هناك حساب ولا جزاء:
أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى؟ بلى. إنه على كل شيء قدير ..
وهي لفتة إلى كتاب الكون المنظور، الذي ورد ذكره في أول السورة. وكثيرا ما يتضمن السياق القرآني مثل هذا التناسق بين قول مباشر في السورة، وقول مثله يجيء في قصة، فيتم التطابق بين مصدرين على الحقيقة الواحدة.
وكتاب الكون يشهد بالقدرة المبدعة ابتداء لهذا الخلق الهائل: السماوات والأرض. ويوحي للحس البشري بيسر الإحياء بعد الموت. وهذا الإحياء هو المقصود. وصياغة القضية في أسلوب الاستفهام والجواب أقوى [ ص: 3275 ] وآكد في تقرير هذه الحقيقة. ثم يجيء التعقيب الشامل: إنه على كل شيء قدير .. فتضم الإحياء وغيره في نطاق هذه القدرة الشاملة لكل شيء كان أو يكون.
وعند ذكر الإحياء يرتسم مشهد الحساب كأنه شاخص للعيون:
ويوم يعرض الذين كفروا على النار. أليس هذا بالحق؟ قالوا: بلى وربنا. قال: فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ..
يبدأ المشهد حكاية أو مقدمة لحكاية: ويوم يعرض الذين كفروا على النار ..
وبينما السامع في انتظار وصف ما سيكون، إذ المشهد يشخص بذاته. وإذ الحوار قائم في المشهد المعروض:
أليس هذا بالحق؟ ..
ويا له من سؤال؟ بل يا لها من قارعة للذين كانوا يكذبون ويستهزئون ويستعجلون، واليوم تتلوى أعناقهم على الحق الذي كانوا ينكرون.
والجواب في خزي وفي مذلة وفي ارتياع:
بلى. وربنا ..
هكذا هم يقسمون: "وربنا".. ربهم الذي كانوا لا يستجيبون لداعيه، ولا يستمعون لنبيه ولا يعترفون له بربوبية. ثم هم اليوم يقسمون به على الحق الذي أنكروه!
عندئذ يبلغ السؤال غاية من الترذيل والتقريع، ويقضى الأمر، وينتهي الحوار:
قال: فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ..
"كلمة ورد غطاها".. كما يقال! الجريمة ظاهرة. الجاني معترف. فإلى الجحيم!
وسرعة المشهد هنا مقصودة. فالمواجهة حاسمة، ولا مجال لأخذ ولا رد. لقد كانوا ينكرون. فالآن يعترفون. والآن يذوقون!
وعلى هذا المشهد الحاسم في مصير الذين كفروا، وعلى مشهد الإيمان من أبناء عالم آخر. وفي ختام السورة التي عرضت مقولات الكافرين عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعن القرآن الكريم.. يجيء الإيقاع الأخير. توجيها للرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يصبر عليهم، ولا يستعجل لهم، فقد رأى ما ينتظرهم، وهو منهم قريب:
فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، ولا تستعجل لهم، كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار. بلاغ. فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ..
وكل كلمة في الآية ذات رصيد ضخم; وكل عبارة وراءها عالم من الصور والظلال، والمعاني والإيحاءات، والقضايا والقيم.
فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل. ولا تستعجل لهم ..
توجيه يقال لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي احتمل ما احتمل، وعانى من قومه ما عانى. وهو [ ص: 3276 ] الذي نشأ يتيما، وجرد من الولي والحامي ومن كل أسباب الأرض واحدا بعد واحد. الأب. والأم. والجد. والعم. والزوج الوفية الحنون. وخلص لله ولدعوته مجردا من كل شاغل. كما هو مجرد من كل سند أو ظهير. وهو الذي لقي من أقاربه من المشركين أشد مما لاقى من الأبعدين. وهو الذي خرج مرة ومرة ومرة يستنصر القبائل والأفراد فرد في كل مرة بلا نصرة. وفي بعض المرات باستهزاء السفهاء ورجمهم له بالحجارة حتى تدمى قدماه الطاهرتان، فما يزيد على أن يتوجه إلى ربه بذلك الابتهال الخاشع النبيل.
وبعد ذلك كله يحتاج إلى توجيه ربه: فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم ..
ألا إنه لطريق شاق طريق هذه الدعوة. وطريق مرير. حتى لتحتاج نفس كنفس محمد - صلى الله عليه وسلم - في تجردها وانقطاعها للدعوة، وفي ثباتها وصلابتها، وفي صفائها وشفافيتها. تحتاج إلى التوجيه الرباني بالصبر وعدم الاستعجال على خصوم الدعوة المتعنتين.
نعم. وإن مشقة هذا الطريق لتحتاج إلى مواساة، وإن صعوبته لتحتاج إلى صبر. وإن مرارته لتحتاج إلى جرعة حلوة من رحيق العطف الإلهي المختوم.
فاصبر. كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم ..
تشجيع وتصبير وتأسية وتسلية.. ثم تطمين:
كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ..
إنه أمد قصير. ساعة من نهار. وإنها حياة خاطفة تلك التي يمكثونها قبيل الآخرة. وإنها لتافهة لا تترك وراءها من الوقع والأثر في النفوس إلا مثلما تتركه ساعة من نهار.. ثم يلاقون المصير المحتوم. ثم يلبثون في الأبد الذي يدوم. وما كانت تلك الساعة إلا بلاغا قبل أن يحق الهلاك والعذاب الأليم:
بلاغ. فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ..
لا. وما الله يريد ظلما للعباد. لا. وليصبر الداعية على ما يلقاه. فما هي إلا ساعة من نهار. ثم يكون ما يكون ...