وبينما هم في هذا التخاذل والتهافت والانهيار تمتد إليهم يد الإيمان بالزاد الذي يقوي العزائم ويشد القوائم لو تناولوه في إخلاص:
فأولى لهم طاعة وقول معروف. فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم ..
نعم. أولى لهم من هذه الفضيحة. ومن هذا الخور. ومن هذا الهلع. ومن هذا النفاق.. أولى لهم طاعة وقول معروف .. طاعة تستسلم لأمر الله عن طمأنينة، وتنهض بأمره عن ثقة. وقول معروف يشي بنظافة الحس واستقامة القلب، وطهارة الضمير. وأولى لهم إذا عزم الأمر، وجد الجد، وواجهوا الجهاد أن يصدقوا الله. يصدقوه عزيمة، ويصدقوه شعورا. فيربط على قلوبهم، ويشد من عزائمهم، ويثبت أقدامهم، وييسر [ ص: 3297 ] المشقة عليهم، ويهون الخطر الذي يتمثلونه غولا تفغر فاها لتلتهمهم! ويكتب لهم إحدى الحسنيين: النجاة والنصر، أو الاستشهاد والجنة.. هذا هو الأولى. وهذا هو الزاد الذي يقدمه الإيمان فيقوي العزائم ويشد القوائم، ويذهب بالفزع، ويحل محله الثبات والاطمئنان.
وبينما هو يتحدث عنهم يلتفت إليهم مباشرة ليخاطبهم مقرعا مهددا بسوء العاقبة لو قادهم حالهم هذا إلى النكسة والتولي إلى الكفر; وخلع ذلك الستار الرقيق من الإسلام:
فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم؟ ..
وهذا التعبير.. فهل عسيتم .. يفيد ما هو متوقع من حال المخاطبين. ويلوح لهم بالنذير والتحذير.. احذروا فإنكم منتهون إلى أن تعودوا إلى الجاهلية التي كنتم فيها. تفسدون في الأرض وتقطعون الأرحام، كما كان شأنكم قبل الإسلام..
وبعد هذه اللفتة المفزعة المنذرة لهم يعود إلى الحديث عنهم لو انتهوا إلى هذا الذي حذرهم إياه:
أولئك الذين لعنهم الله، فأصمهم وأعمى أبصارهم. أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها .
أولئك الذين يظلون في مرضهم ونفاقهم حتى يتولوا عن هذا الأمر الذي دخلوا فيه بظاهرهم ولم يصدقوا الله فيه، ولم يستيقنوه. أولئك الذين لعنهم الله .. وطردهم وحجبهم عن الهدى، فأصمهم وأعمى أبصارهم .. وهم لم يفقدوا السمع، ولم يفقدوا البصر; ولكنهم عطلوا السمع وعطلوا البصر، أو عطلوا قوة الإدراك وراء السمع والبصر; فلم يعد لهذه الحواس وظيفة لأنها لم تعد تؤدي هذه الوظيفة.
ويتساءل في استنكار: أفلا يتدبرون القرآن .. وتدبر القرآن يزيل الغشاوة، ويفتح النوافذ، ويسكب النور، ويحرك المشاعر، ويستجيش القلوب، ويخلص الضمير. وينشئ حياة للروح تنبض بها وتشرق وتستنير، أم على قلوب أقفالها؟ فهي تحول بينها وبين القرآن وبينها وبين النور؟ فإن استغلاق قلوبهم كاستغلاق الأقفال التي لا تسمح بالهواء والنور!
ويمضي في تصوير حال المنافقين، وسبب توليهم عن الإيمان بعد إذ شارفوه، فيتبين أنه تآمرهم مع اليهود، ووعدهم لهم بالطاعة فيما يدبرون:
إن الذين ارتدوا على أدبارهم - من بعد ما تبين لهم الهدى - الشيطان سول لهم وأملى لهم. ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله: سنطيعكم في بعض الأمر. والله يعلم إسرارهم ..
والتعبير يرسم معنى رجوعهم عن الهدى بعد ما تبين لهم، في صورة حركة حسية، حركة الارتداد على الأدبار. ويكشف ما وراءها من وسوسة الشيطان وتزيينه وإغرائه. فإذا ظاهر هذه الحركة وباطنها مكشوفان مفهومان!
وهم المنافقون الذين يتخفون ويتسترون! ثم يذكر السبب الذي جعل للشيطان عليهم هذا السلطان، وانتهى بهم إلى الارتداد على الأدبار بعد ما عرفوا الهدى وتبينوه:
ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر ..
واليهود في المدينة هم أول من كرهوا ما نزل الله; لأنهم كانوا يتوقعون أن تكون الرسالة الأخيرة فيهم، وأن يكون خاتم الرسل منهم وكانوا يستفتحون على الذين كفروا ويوعدونهم ظهور النبي الذي يقودهم ويمكن لهم في الأرض، ويسترجع ملكهم وسلطانهم. فلما اختار الله آخر رسله من نسل إبراهيم، من غير يهود، [ ص: 3298 ] كرهوا رسالته. حتى إذا هاجر إلى المدينة كرهوا هجرته، التي هددت ما بقي لهم من مركز هناك. ومن ثم كانوا إلبا عليه منذ أول يوم، وشنوا عليه حرب الدس والمكر والكيد، حينما عجزوا عن مناصبته العداء جهرة في ميادين القتال; وانضم إليهم كل حانق، وكل منافق، وظلت الحرب سجالا بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أجلاهم في آخر الأمر عن الجزيرة كلها وخلصها للإسلام.
وهؤلاء الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم قالوا لليهود: سنطيعكم في بعض الأمر .. والأرجح أن ذلك كان في الدس والكيد والتآمر على الإسلام ورسول الإسلام.
والله يعلم إسرارهم .
وهو تعقيب كله تهديد. فأين يذهب تآمرهم وإسرارهم وماذا يؤثر; وهو مكشوف لعلم الله؟ معرض لقوة الله؟
ثم التهديد السافر بجند الله، والمتآمرون في نهاية الحياة:
فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم !
وهو مشهد مفزع مهين. وهم يحتضرون. ولا حول لهم ولا قوة. وهم في نهاية حياتهم على هذه الأرض. وفي مستهل حياتهم الأخرى. هذه الحياة التي تفتتح بضرب الوجوه والأدبار. في لحظة الوفاة، لحظة الضيق والكرب والمخافة. الأدبار التي ارتدوا عليها من بعد ما تبين لهم الهدى! فيا لها من مأساة!
ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله، وكرهوا رضوانه، فأحبط أعمالهم ..
فهم الذين أرادوا لأنفسهم هذا المصير واختاروه. هم الذين عمدوا إلى ما أسخط الله من نفاق ومعصية وتآمر مع أعداء الله وأعداء دينه ورسوله فاتبعوه. وهم الذين كرهوا رضوان الله فلم يعملوا له، بل عملوا ما يسخط الله ويغضبه.. فأحبط أعمالهم .. التي كانوا يعجبون بها ويتعاجبون; ويحسبونها مهارة وبراعة وهم يتآمرون على المؤمنين ويكيدون. فإذا بهذه الأعمال تتضخم وتنتفخ. ثم تهلك وتضيع!
وفي نهاية الشوط يتهددهم بكشف أمرهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين، الذين يعيشون بينهم متخفين ; يتظاهرون بالإسلام وهم لهم كائدون:
أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم؟ ولو نشاء لأريناكهم، فلعرفتهم بسيماهم، ولتعرفنهم في لحن القول، والله يعلم أعمالكم. ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ..
ولقد كان المنافقون يعتمدون على إتقانهم فن النفاق، وعلى خفاء أمرهم في الغالب على المسلمين. فالقرآن يسفه ظنهم أن هذا الأمر سيظل خافيا، ويهددهم بكشف حالهم وإظهار أضغانهم وأحقادهم على المسلمين. ويقول لرسوله - صلى الله عليه وسلم - : "ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم".. أي: لو نشاء لكشفنا لك عنهم بذواتهم وأشخاصهم، حتى لترى أحدهم فتعرفه من ملامحه (وكان هذا قبل أن يكشف الله له عن نفر منهم بأسمائهم) ومع ذلك فإن لهجتهم ونبرات صوتهم، وإمالتهم للقول عن استقامته، وانحراف منطقهم في خطابك سيدلك على نفاقهم: ولتعرفنهم في لحن القول ..
ويعرج على علم الله الشامل بالأعمال وبواعثها: والله يعلم أعمالكم .. فلا تخفى عليه منها خافية.. ثم وعد من الله بالابتلاء.. ابتلاء الأمة الإسلامية كلها، لينكشف المجاهدون والصابرون ويتميزوا وتصبح [ ص: 3299 ] أخبارهم معروفة، ولا يقع الالتباس في الصفوف، ولا يبقى مجال لخفاء أمر المنافقين ولا أمر الضعاف والجزعين:
ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين، ونبلو أخباركم ..
والله يعلم حقائق النفوس ومعادنها، ويطلع على خفاياها وخباياها، ويعلم ما يكون من أمرها علمه بما هو كائن فعلا. فما هذا الابتلاء؟ ولمن يكون العلم من ورائه بما يتكشف عنه؟
إن الله - جلت حكمته - يأخذ البشر بما هو في طوقهم، وما هو من طبيعتهم واستعدادهم. وهم لا يعلمون عن الحقائق المستكنة ما يعلمه. فلا بد لهم من تكشف الحقائق ليدركوها ويعرفوها ويستيقنوها، ثم ينتفعوا بها.
والابتلاء بالسراء والضراء، وبالنعماء والبأساء، وبالسعة والضيق، وبالفرج والكرب.. كلها تكشف عما هو مخبوء من معادن النفوس، وما هو مجهول من أمرها حتى لأصحابها..
أما المراد بعلم الله لما تتكشف عنه النفوس بعد الابتلاء فهو تعلق علمه بها في حالتها الظاهرة التي يراها الناس عليها.
ورؤية الناس لها في صورتها التي تدركها مداركهم هو الذي يؤثر فيهم ويكيف مشاعرهم، ويوجه حياتهم بوسائلهم الداخلة في طوقهم. وهكذا تتم حكمة الله في الابتلاء.
ومع هذا فإن العبد المؤمن يرجو ألا يتعرض لبلاء الله وامتحانه. ويتطلع إلى عافيته ورحمته. فإذا أصابه بلاء الله بعد هذا صبر له، وهو مدرك لما وراءه من حكمة; واستسلم لمشيئة الله واثقا من حكمته، متطلعا إلى رحمته وعافيته بعد الابتلاء.
وقد روي عن الفضيل العابد الصوفي أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهم لا تبلنا. فإنك إن بلوتنا فضحتنا، وهتكت أستارنا وعذبتنا..