ثم تختم السورة بتوكيد الخبر الصادق، وتسبيح الله الخالق: إن هذا لهو حق اليقين. فسبح باسم ربك العظيم .. فيلتئم المطلع والختام أكمل التئام..
إذا وقعت الواقعة. ليس لوقعتها كاذبة. خافضة رافعة. إذا رجت الأرض رجا. وبست الجبال بسا. فكانت هباء منبثا ... .
هذا المطلع واضح فيه التهويل في عرض هذا الحدث الهائل. وهو يتبع أسلوبا خاصا يلحظ فيه هذا المعنى، ويتناسق مع مدلولات العبارة. فمرتين يبدأ بإذا الشرطية يذكر شرطها ولا يذكر جوابها. إذا وقعت الواقعة. ليس لوقعتها كاذبة. خافضة رافعة .. ولا يقول: ماذا يكون إذا وقعت الواقعة وقعة صادقة ليس لها كاذبة، وهي خافضة رافعة. ولكن يبدأ حديثا جديدا: إذا رجت الأرض رجا. وبست الجبال بسا. فكانت هباء منبثا. .. ومرة أخرى لا يقول: ماذا يكون إذا كان هذا الهول العظيم.. فكأنما هذا الهول كله مقدمة، لا يذكر نتائجها، لأن نتائجها أهول من أن يحيط بها اللفظ، أو تعبر عنها العبارة!
هذا الأسلوب الخاص يتناسب مع الصورة المروعة المفزعة التي يرسمها هذا المطلع بذاته. فالواقعة بمعناها وبجرس اللفظ ذاته - بما فيه من مد ثم سكون - تلقى في الحس كأنما هي ثقل ضخم ينقض من عل ثم يستقر، لغير ما زحزحة بعد ذلك ولا زوال! ليس لوقعتها كاذبة ..
ثم إن سقوط هذا الثقل ووقوعه، كأنما يتوقع له الحس أرجحة ورجرجة يحدثها حين يقع. ويلبي السياق هذا التوقع فإذا هي: خافضة رافعة .. وإنها لتخفض أقدارا كانت رفيعة في الأرض، وترفع أقدارا كانت خفيضة في دار الفناء، حيث تختل الاعتبارات والقيم; ثم تستقيم في ميزان الله.
ثم يتبدى الهول في كيان هذه الأرض. الأرض الثابتة المستقرة فيما يحس الناس. فإذا هي ترج رجا - وهي حقيقة تذكر في التعبير الذي يتسق في الحس مع وقع الواقعة - ثم إذا الجبال الصلبة الراسية تتحول - تحت وقع الواقعة - إلى فتات يتطاير كالهباء.. وبست الجبال بسا. فكانت هباء منبثا .. فما أهول هذا الهول الذي يرج الأرض رجا، ويبس الجبال بسا، ويتركها هباء منبثا. وما أجهل الذين يتعرضون له وهم مكذبون بالآخرة، مشركون بالله، وهذا أثره في الأرض والجبال!
وهكذا تبدأ السورة بما يزلزل الكيان البشري، ويهول الحس الإنساني، تجاه القضية التي ينكرها المنكرون، [ ص: 3463 ] ويكذب بها المشركون. وينتهي هذا المشهد الأول للواقعة لنشهد آثارها في الخفض والرفع، وفي أقدار البشر ومصائرهم الأخيرة:
وكنتم أزواجا ثلاثة. فأصحاب الميمنة. ما أصحاب الميمنة؟ وأصحاب المشأمة. ما أصحاب المشأمة؟ والسابقون السابقون ...
ونجد الناس هنا أصنافا ثلاثة - لا صنفين اثنين كما هو السائد في مشاهد الاستعراض القرآنية - ويبدأ بالحديث عن أصحاب الميمنة - أو أصحاب اليمين - ولكنه لا يفصل عنهم الحديث إنما يصفهم باستفهام عنهم للتهويل والتضخيم: فأصحاب الميمنة. ما أصحاب الميمنة؟ . وكذلك يذكر أصحاب المشأمة بنفس الأسلوب. ثم يذكر الفريق الثالث، فريق السابقين، يذكرهم فيصفهم بوصفهم: والسابقون السابقون .. كأنما ليقول إنهم هم هم. وكفى. فهو مقام لا يزيده الوصف شيئا!
ومن ثم يأخذ في بيان قدرهم عند ربهم، وتفصيل ما أعده من النعيم لهم، وتعديد أنواعه التي يمكن أن يدركها حس المخاطبين، وتتناوله معارفهم وتجاربهم:
أولئك المقربون. في جنات النعيم. ثلة من الأولين. وقليل من الآخرين. على سرر موضونة. متكئين عليها متقابلين. يطوف عليهم ولدان مخلدون. بأكواب وأباريق وكأس من معين. لا يصدعون عنها ولا ينزفون. وفاكهة مما يتخيرون. ولحم طير مما يشتهون. وحور عين. كأمثال اللؤلؤ المكنون. جزاء بما كانوا يعملون. لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما. إلا قيلا: سلاما سلاما ..
إنه يبدأ في بيان هذا النعيم، بالنعيم الأكبر. النعيم الأسنى. نعيم القرب من ربهم: أولئك المقربون في جنات النعيم .. وجنات النعيم كلها لا تساوي ذلك التقريب، ولا تعدل ذلك النصيب.
ومن ثم يقف عند هذه الدرجة ليقول من هم أصحابها.. إنهم: ثلة من الأولين وقليل من الآخرين .. فهم عدد محدود. وفريق منتقى. كثرتهم في الأولين وقلتهم في الآخرين. واختلفت الروايات في من هم الأولون ومن هم الآخرون. فالقول الأول: إن الأولين هم السابقون إلى الإيمان ذوو الدرجة العالية فيه من الأمم السابقة قبل الإسلام. وإن الآخرين هم السابقون إلى الإسلام ذوو البلاء فيه.. والقول الثاني: إن الأولين والآخرين هم من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فالأولون من صدرها، والآخرون من متأخريها. وهذا القول الثاني رجحه ابن كثير. وروى في ترجيحه للحسن قال وابن سيرين: حدثنا ابن أبي حاتم: الحسن بن محمد ابن الصباح، حدثنا عفان، حدثنا عبد الله بن أبي بكر المزني، سمعت أتى على هذه الآية: الحسن والسابقون السابقون أولئك المقربون فقال: "أما السابقون فقد مضوا ولكن اللهم اجعلنا من أصحاب اليمين".. ثم قال: حدثنا أبي، حدثنا أبو الوليد، حدثنا السري بن يحيى. قال: قرأ " الحسن: والسابقون السابقون. أولئك المقربون في جنات النعيم. ثلة من الأولين .. قال: ثلة ممن مضى من هذه الأمة".. وحدثنا أبي، حدثنا عبد العزيز بن المغيرة المنقري، حدثنا أبو هلال، عن أنه قال في هذه الآية: محمد بن سيرين، ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين .. قال: كانوا يقولون، أو يرجون، أن يكونوا كلهم من هذه الأمة.
وبعد بيان من هم يأخذ في تفصيل مناعم الجنة التي أعدت لهم. وهي بطبيعة الحال المناعم التي في طوقهم أن يتصوروها ويدركوها; ووراءها مناعم أخرى يعرفونها هنالك يوم يتهيأون لإدراكها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر!
على سرر موضونة .. مشبكة بالمعادن الثمينة. متكئين عليها متقابلين . في راحة وخلو بال من الهموم [ ص: 3464 ] والمشاغل، وفي طمأنينة على ما هم فيه من نعيم، لا خوف من فوته ولا نفاده وفي إقبال بعضهم على بعض يتسامرون.. يطوف عليهم ولدان مخلدون .. لا يفعل فيهم الزمن، ولا تؤثر في شبابهم وصباحتهم السن كأشباههم في الأرض. يطوفون عليهم بأكواب وأباريق وكأس من معين .. من خمر صافية سائغة لا يصدعون عنها ولا ينزفون .. فلا هم يفرقون عنها ولا هي تنفد من بين أيديهم. فكل شيء هنا للدوام والأمان. وفاكهة مما يتخيرون. ولحم طير مما يشتهون .. فهنا لا شيء ممنوع، ولا شيء على غير ما يشتهي السعداء الخالدون. وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون .. واللؤلؤ المكنون هو اللؤلؤ المصون، الذي لم يتعرض للمس والنظر، فلم تثقبه يد ولم تخدشه عين! وفي هذا كناية عن معان حسية ونفسية لطيفة في هؤلاء الحور الواسعات العيون. وذلك كله: جزاء بما كانوا يعملون .. فهو مكافأة على عمل كان في دار العمل. مكافأة يتحقق فيها الكمال الذي كان ينقص كل المناعم في دار الفناء. ثم هم بعد ذلك كله يحيون في هدوء وسكون، وفي ترفع وتنزيه عن كل لغو في الحديث، وكل جدل وكل مؤاخذة: لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما. إلا قيلا: سلاما سلاما .. حياتهم كلها سلام. يرف عليها السلام. ويشيع فيها السلام. تسلم عليهم الملائكة في ذلك الجو الناعم الآمن; ويسلم بعضهم على بعض. ويبلغهم السلام من الرحمن. فالجو كله سلام سلام..
فإذا انتهى الحديث عن ذلك الفريق السابق المختار، بدأ الحديث عن الفريق الذي يليه: فريق أصحاب اليمين:
وأصحاب اليمين. ما أصحاب اليمين؟ في سدر مخضود، وطلح منضود. وظل ممدود. وماء مسكوب. وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة. وفرش مرفوعة. إنا أنشأناهن إنشاء. فجعلناهن أبكارا. عربا أترابا. لأصحاب اليمين. ثلة من الأولين. وثلة من الآخرين ..
وأصحاب اليمين هم أصحاب الميمنة الذين أشار إليهم تلك الإشارة المجملة في أول السورة. ثم أخر تفصيل نعيمهم، إلى موعده هنا بعد السابقين المقربين. وهو يعيد السؤال عنهم بتلك الصيغة التي تفيد التفخيم والتهويل: ما أصحاب اليمين؟ ..
ولأصحابنا هؤلاء نعيم مادي محسوس، يبدو في أوصافه شيء من خشونة البداوة، ويلبي هواتف أهل البداوة حسبما تبلغ مداركهم وتجاربهم من تصور ألوان النعيم!
إنهم في سدر مخضود .. والسدر شجر النبق الشائك. ولكنه هنا مخضود شوكه ومنزوع. وطلح منضود .. والطلح شجر من شجر الحجاز من نوع العضاه فيه شوك. ولكنه هنا منضود معد للتناول بلا كد ولا مشقة. وظل ممدود، وماء مسكوب .. وتلك جميعا من مراتع البدوي ومناعمه، كما يطمح إليها خياله وتهتف بها أشواقه! وفاكهة كثيرة. لا مقطوعة ولا ممنوعة .. تركها مجملة شاملة بغير تفصيل بعد ما ذكر الأنواع المعروفة لسكان البادية بالتعيين. وفرش مرفوعة .. وهي هنا لا موضونة ولا ناعمة. وبحسبها أنها مرفوعة. وللرفع في الحس معنيان. مادي ومعنوي يستدعي أحدهما الآخر، ويلتقيان عند الارتفاع في المكان والطهارة من الدنس. فالمرفوع عن الأرض أبعد عن نجسها. والمرفوع في المعنى أبعد عن دنسها. ولهذا ينتقل السياق من الفرش المرفوعة إلى ذكر من فيها من الأزواج: إنا أنشأناهن إنشاء إما ابتداء وهن الحور. وإما استئنافا وهن الزوجات المبعوثات شواب: فجعلناهن أبكارا لم يمسسن عربا .. متحببات إلى أزواجهن أترابا متوافيات السن والشباب. لأصحاب اليمين .. مخصصات لهم. ليتسق ذلك مع "الفرش المرفوعة"..
فأما أصحاب اليمين هؤلاء فهم ثلة من الأولين وثلة من الآخرين .. فهم أكثر عددا من السابقين المقربين. [ ص: 3465 ] على الاعتبارين اللذين ذكرناهما في معنى الأولين والآخرين.