يا أيها الإنسان .. الذي خلقه ربه بإحسان; والذي ميزه بهذه " الإنسانية " التي تفرده في هذا الكون بخصائص كان من شأنها أن يكون أعرف بربه، وأطوع لأمره من الأرض والسماء. وقد نفخ فيه من روحه، وأودعه القدرة على الاتصال به، وتلقي قبس من نوره، والفرح باستقبال فيوضاته، والتطهر بها أو الارتفاع إلى غير حد، حتى يبلغ الكمال المقدر لجنسه، وآفاق هذا الكمال عالية بعيدة!
يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه .. يا أيها الإنسان إنك تقطع رحلة حياتك على الأرض كادحا، تحمل عبئك، وتجهد جهدك، وتشق طريقك.. لتصل في النهاية إلى ربك. فإليه المرجع وإليه المآب. بعد الكد والكدح والجهاد..
يا أيها الإنسان.. إنك كادح حتى في متاعك.. فأنت لا تبلغه في هذه الأرض إلا بجهد وكد. إن لم يكن جهد بدن وكد عمل، فهو جهد تفكير وكد مشاعر. الواجد والمحروم سواء. إنما يختلف نوع الكدح ولون العناء، وحقيقة الكدح هي المستقرة في حياة الإنسان.. ثم النهاية في آخر المطاف إلى الله سواء.
يا أيها الإنسان.. إنك لا تجد الراحة في الأرض أبدا. إنما الراحة هناك. لمن يقدم لها بالطاعة والاستسلام.. التعب واحد في الأرض والكدح واحد - وإن اختلف لونه وطعمه - أما العاقبة فمختلفة عند ما تصل إلى ربك.. فواحد إلى عناء دونه عناء الأرض. وواحد إلى نعيم يمسح على آلام الأرض كأنه لم يكن كدح ولا كد..
يا أيها الإنسان.. الذي امتاز بخصائص "الإنسان".. ألا فاختر لنفسك ما يليق بهذا الامتياز الذي خصك به الله، اختر لنفسك الراحة من الكدح عند ما تلقاه.
ولأن هذه اللمسة الكامنة في هذا النداء، فإنه يصل بها مصائر الكادحين عند ما يصلون إلى نهاية الطريق، [ ص: 3867 ] ويلقون ربهم بعد الكدح والعناء:
وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا، ويصلى سعيرا. إنه كان في أهله مسرورا. إنه ظن أن لن يحور. بلى إن ربه كان به بصيرا ..
والذي يؤتى كتابه بيمينه هو المرضي السعيد، الذي آمن وأحسن، فرضي الله عنه وكتب له النجاة. وهو يحاسب حسابا يسيرا. فلا يناقش ولا يدقق معه في الحساب. والذي يصور ذلك هو الآثار الواردة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفيها غناء..
عن رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : عائشة - فسوف يحاسب حسابا يسيرا . قال: "ليس ذلك بالحساب، ولكن ذلك العرض. من نوقش الحساب يوم القيامة عذب".. "من نوقش الحساب عذب" قالت: قلت: أفليس قال الله تعالى:
وعنها كذلك قالت: يومئذ هلك".. عائشة سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في بعض صلاته: "اللهم حاسبني حسابا يسيرا" .. فلما انصرف قلت: يا رسول الله، ما الحساب اليسير؟ قال: "أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه. من نوقش الحساب يا
فهذا هو الحساب اليسير الذي يلقاه من يؤتى كتابه بيمينه.. ثم ينجو وينقلب إلى أهله مسرورا .. من الناجين الذين سبقوه إلى الجنة.. وهو تعبير يفيد تجمع المتوافقين على الإيمان والصلاح من أهل الجنة. وكل من أحب من أهله وصحبه. ويصور رجعة الناجي من الحساب إلى مجموعته المتآلفة بعد الموقف العصيب. رجعته متهللا فرحا مسرورا بالنجاة واللقاء في الجنان!
وهو وضع يقابل وضع المعذب الهالك المأخوذ بعمله السيئ، الذي يؤتى كتابه وهو كاره:
وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا. ويصلى سعيرا ..
والذي ألفناه في تعبيرات القرآن من قبل هو كتاب اليمين وكتاب الشمال. فهذه صورة جديدة: صورة إعطاء الكتاب من وراء الظهر. وليس يمتنع أن يكون الذي يعطى كتابه بشماله يعطاه كذلك من وراء ظهره. فهي هيئة الكاره المكره الخزيان من المواجهة!
ونحن لا ندري حقيقة الكتاب ولا كيفية إيتائه باليمين أو بالشمال أو من وراء الظهر. إنما تخلص لنا حقيقة النجاة من وراء التعبير الأول; وحقيقة الهلاك من وراء التعبير الثاني. وهما الحقيقتان المقصود أن نستيقنهما. وما وراء ذلك من الأشكال إنما يحيي المشهد ويعمق أثره في الحس، والله أعلم بحقيقة ما يكون كيف تكون!
فهذا التعيس الذي قضى حياته في الأرض كدحا، وقطع طريقه إلى ربه كدحا - ولكن في المعصية والإثم والضلال - يعرف نهايته، ويواجه مصيره، ويدرك أنه العناء الطويل بلا توقف في هذه المرة ولا انتهاء. فيدعو ثبورا، وينادي الهلاك لينقذه مما هو مقدم عليه من الشقاء. وحين يدعو الإنسان بالهلاك لينجو به، يكون في الموقف الذي ليس بعده ما يتقيه. حتى ليصبح الهلاك أقصى أمانيه. وهذا هو المعنى الذي أراده وهو يقول: المتنبي
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا
[ ص: 3868 ] فإنما هي التعاسة التي ليس بعدها تعاسة. والشقاء الذي ليس بعده شقاء! .. ويصلى سعيرا .. وهذا هو الذي يدعو الهلاك لينقذه منه.. وهيهات هيهات!
وأمام هذا المشهد التعيس يكر السياق راجعا إلى ماضي هذا الشقي الذي انتهى به إلى هذا الشقاء..
إنه كان في أهله مسرورا. إنه ظن أن لن يحور ..
وذلك كان في الدنيا.. نعم كان.. فنحن الآن - مع هذا القرآن - في يوم الحساب والجزاء وقد خلفنا الأرض وراءنا بعيدا في الزمان والمكان!
إنه كان في أهله مسرورا .. غافلا عما وراء اللحظة الحاضرة; لاهيا عما ينتظره في الدار الآخرة، لا يحسب لها حسابا ولا يقدم لها زادا.. إنه ظن أن لن يحور إلى ربه، ولن يرجع إلى بارئه، ولو ظن الرجعة في نهاية المطاف لاحتقب بعض الزاد ولادخر شيئا للحساب!
بلى إن ربه كان به بصيرا ..
إنه ظن أن لن يحور. ولكن الحقيقة أن ربه كان مطلعا على أمره، محيطا بحقيقته، عالما بحركاته وخطواته، عارفا أنه صائر إليه، وأنه مجازيه بما كان منه.. وكذلك كان، حين انتهى به المطاف إلى هذا المقدور في علم الله.
والذي لم يكن بد أن يكون!
وصورة هذا التعيس وهو مسرور بين أهله في حياة الأرض القصيرة المشوبة بالكدح - في صورة من صور الكدح - تقابلها صورة ذلك السعيد، وهو ينقلب إلى أهله مسرورا في حياة الآخرة المديدة، الطليقة، الجميلة، السعيدة، الهنيئة، الخالية من كل شائبة من كدح أو عناء..
ومن هذه الجولة الكبيرة العميقة الأثر بمشاهدها ولمساتها الكثيرة، يعود السياق بهم إلى لمحات من هذا الكون الذي يعيشون فيه حياتهم، وهم غافلون عما تشي به هذه اللمحات من التدبير والتقدير، الذي يشملهم كذلك، ويقدر بإحكام ما يتوارد عليهم من أحوال:
فلا أقسم بالشفق، والليل وما وسق، والقمر إذا اتسق.. لتركبن طبقا عن طبق ..
وهذه اللمحات الكونية التي يلوح بالقسم بها، لتوجيه القلب البشري إليها، وتلقي إيحاءاتها وإيقاعاتها.. لمحات ذات طابع خاص. طابع يجمع بين الخشوع الساكن، والجلال المرهوب. وهي تتفق في ظلالها مع ظلال مطلع السورة ومشاهدها بصفة عامة.
فالشفق هو الوقت الخاشع المرهوب بعد الغروب.. وبعد الغروب تأخذ النفس روعة ساكنة عميقة. ويحس القلب بمعنى الوداع وما فيه من أسى صامت وشجى عميق. كما يحس برهبة الليل القادم، ووحشة الظلام الزاحف. ويلفه في النهاية خشوع وخوف خفي وسكون!
والليل وما وسق .. هو الليل وما جمع وما حمل.. بهذا التعميم، وبهذا التجهيل، وبهذا التهويل. والليل يجمع ويضم ويحمل الكثير.. ويذهب التأمل بعيدا، وهو يتقصى ما يجمعه الليل ويضمه ويحمله من أشياء وأحياء وأحداث ومشاعر، وعوالم خافية ومضمرة، ساربة في الأرض وغائرة في الضمير.. ثم يؤوب من هذه الرحلة المديدة، ولم يبلغ من الصور ما يحتويه النص القرآني القصير: والليل وما وسق .. إنما يغمره من النص العميق العجيب، رهبة ووجل، وخشوع وسكون تتسق مع الشفق وما يضفيه من خشوع وخوف وسكون!
[ ص: 3869 ] والقمر إذا اتسق .. مشهد كذلك هادئ رائع ساحر.. وهو القمر في ليالي اكتماله.. وهو يفيض على الأرض بنوره الحالم الخاشع الموحي بالصمت الجليل، والسياحة المديدة، في العوالم الظاهرة والمكنونة في الشعور.. وهو جو له صلة خفية بجو الشفق، والليل وما وسق. يلتقي معهما في الجلال والخشوع والسكون..
هذه اللمحات الكونية الجميلة الجليلة الرائعة المرهوبة الموحية يلتقطها القرآن لقطات سريعة، ويخاطب بها القلب البشري، الذي يغفل عن خطابها الكوني. ويلوح بالقسم بها ليبرزها للمشاعر والضمائر، في حيويتها، وجمالها وإيحائها وإيقاعها، ودلالتها على اليد التي تمسك بأقدار هذا الكون. وترسم خطواته، وتبدل أحواله.. وأحوال الناس أيضا وهم غافلون:
لتركبن طبقا عن طبق .. أي لتعانون حالا بعد حال، وفق ما هو مرسوم لكم من تقديرات وأحوال. ويعبر عن معاناة الأحوال المتعاقبة بركوبها. والتعبير بركوب الأمور والأخطار والأهوال والأحوال مألوف في التعبير العربي، كقولهم: "إن المضطر يركب الصعب من الأمور وهو عالم بركوبه".. وكأن هذه الأحوال مطايا يركبها الناس واحدة بعد واحدة. وكل منها تمضي بهم وفق مشيئة القدر الذي يقودها ويقودهم في الطريق، فتنتهي بهم عند غاية تؤدي إلى رأس مرحلة جديدة، مقدرة كذلك مرسومة، كتقدير هذه الأحوال المتعاقبة على الكون من الشفق، والليل وما وسق، والقمر إذا اتسق. حتى تنتهي بهم إلى لقاء ربهم الذي تحدثت عنه الفقرة السالفة.. وهذا التتابع المتناسق في فقرات السورة، والانتقال اللطيف من معنى إلى معنى، ومن جولة إلى جولة، هو سمة من سمات هذا القرآن البديع..
وفي ظل هذه اللمحات الأخيرة، والمشاهد والجولات السابقة لها في السورة، يجيء التعجيب من أمر الذين لا يؤمنون. وأمامهم هذا الحشد من موحيات الإيمان ودلائله في أنفسهم وفي الوجود:
فما لهم لا يؤمنون؟ وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون؟ ..
أجل! فما لهم لا يؤمنون؟
إن موحيات الإيمان في لمحات الوجود، وفي أحوال النفوس، تواجه القلب البشري حيثما توجه; وتتكاثر عليه أينما كان. وهي من الكثرة والعمق والقوة والثقل في ميزان الحقيقة بحيث تحاصر هذا القلب لو أراد التفلت منها. بينما هي تناجيه وتناغيه وتناديه حيثما ألقى بسمعه وقلبه إليها!
فما لهم لا يؤمنون؟ وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون؟ وهو يخاطبهم بلغة الفطرة، ويفتح قلوبهم على موحيات الإيمان ودلائله في الأنفس والآفاق. ويستجيش في هذه القلوب مشاعر التقوى والخشوع والطاعة والخضوع لبارئ الوجود.. وهو "السجود"..
إن هذا الكون جميل. وموح. وفيه من اللمحات والومضات واللحظات والسبحات ما يستجيش في القلب البشري أسمى مشاعر الاستجابة والخشوع.
وإن هذا القرآن جميل. وموح. وفيه من اللمسات والموحيات ما يصل القلب البشري بالوجود الجميل، وببارئ الوجود الجليل. ويسكب فيه حقيقة الكون الكبيرة الموحية بحقيقة خالقه العظيم.. فما لهم لا يؤمنون؟ وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون؟ ..
إنه لأمر عجيب حقا. يضرب عنه السياق ليأخذ في بيان حقيقة حال الكفار، وما ينتظرهم من مآل:
[ ص: 3870 ] بل الذين كفروا يكذبون. والله أعلم بما يوعون. فبشرهم بعذاب أليم ..
بل الذين كفروا يكذبون. يكذبون إطلاقا. فالتكذيب طابعهم وميسمهم وطبعهم الأصيل. والله أعلم بما يكنون في صدورهم، ويضمون عليه جوانحهم، من شر وسوء ودوافع لهذا التكذيب..
ويترك الحديث عنهم، ويتجه بالخطاب إلى الرسول الكريم: فبشرهم بعذاب أليم .. ويا لها من بشرى لا تسر ولا يودها متطلع إلى بشرى من بشير!
وفي الوقت ذاته يعرض ما ينتظر المؤمنين الذين لا يكذبون، فيستعدون بالعمل الصالح لما يستقبلون. ويجيء هذا العرض في السياق كأنه استثناء من مصير الكفار المكذبين:
إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات. لهم أجر غير ممنون ..
وهو الذي يقال عنه في اللغة إنه استثناء منقطع. فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لم يكونوا داخلين ابتداء في تلك البشارة السوداء ثم استثنوا منها! ولكن التعبير على هذا النحو أشد إثارة للانتباه إلى الأمر المستثنى!
والأجر غير الممنون.. هو الأجر الدائم غير المقطوع.. في دار البقاء والخلود..
وبهذا الإيقاع الحاسم القصير، تنتهي السورة القصيرة العبارة، البعيدة الآماد في مجالات الكون والضمير.