[ ص: 3908 ] (90) سورة البلد مكية
وآياتها عشرون
بسم الله الرحمن الرحيم
لا أقسم بهذا البلد (1) وأنت حل بهذا البلد (2) ووالد وما ولد (3) لقد خلقنا الإنسان في كبد (4) أيحسب أن لن يقدر عليه أحد (5) يقول أهلكت مالا لبدا (6) أيحسب أن لم يره أحد (7) ألم نجعل له عينين (8) ولسانا وشفتين (9) وهديناه النجدين (10) فلا اقتحم العقبة (11) وما أدراك ما العقبة (12) فك رقبة (13) أو إطعام في يوم ذي مسغبة (14) يتيما ذا مقربة (15) أو مسكينا ذا متربة (16) ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة (17) أولئك أصحاب الميمنة (18) والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة (19)
عليهم نار مؤصدة (20)
تضم هذه السورة الصغيرة جناحيها على حشد من الحقائق الأساسية في حياة الكائن الإنساني ذات الإيحاءات الدافعة واللمسات الموحية. حشد يصعب أن يجتمع في هذا الحيز الصغير في غير القرآن الكريم، وأسلوبه الفريد في التوقيع على أوتار القلب البشري بمثل هذه اللمسات السريعة العميقة..
تبدأ السورة بالتلويح بقسم عظيم، على حقيقة في حياة الإنسان ثابتة:
لا أقسم بهذا البلد. وأنت حل بهذا البلد. ووالد وما ولد. لقد خلقنا الإنسان في كبد .
والبلد هو مكة. بيت الله الحرام. أول بيت وضع للناس في الأرض. ليكون مثابة لهم وأمنا. يضعون عنده سلاحهم وخصوماتهم وعداواتهم، ويلتقون فيه مسالمين، حراما بعضهم على بعض، كما أن البيت وشجره وطيره وكل حي فيه حرام. ثم هو بيت إبراهيم والد إسماعيل أبي العرب والمسلمين أجمعين.
ويكرم الله نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - فيذكره ويذكر حله بهذا البلد وإقامته، بوصفها ملابسة تزيد هذا البلد حرمة، وتزيده شرفا، وتزيده عظمة. وهي إيماءة ذات دلالة عميقة في هذا المقام. والمشركون يستحلون [ ص: 3909 ] حرمة البيت، فيؤذون النبي والمسلمين فيه، والبيت كريم، يزيده كرما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حل فيه مقيم. وحين يقسم الله - سبحانه - بالبلد والمقيم به، فإنه يخلع عليه عظمة وحرمة فوق حرمته، فيبدو موقف المشركين الذين يدعون أنهم سدنة البيت وأبناء إسماعيل وعلى إبراهيم، موقفا منكرا قبيحا من جميع الوجوه. ملة
ولعل هذا المعنى يرشح لاعتبار: ووالد وما ولد .. إشارة خاصة إلى إبراهيم، أو إلى إسماعيل - عليهما السلام - وإضافة هذا إلى القسم بالبلد والنبي المقيم به، وبانيه الأول وما ولد.. وإن كان هذا الاعتبار لا ينفي أن يكون المقصود هو: والد وما ولد إطلاقا. وأن تكون هذه إشارة إلى طبيعة النشأة الإنسانية، واعتمادها على التوالد. تمهيدا للحديث عن حقيقة الإنسان التي هي مادة السورة الأساسية.
وللأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في هذا الموضع من تفسيره للسورة في "جزء عم" لفتة لطيفة تتسق في روحها مع روح هذه "الظلال" فنستعيرها منه هنا.. قال رحمه الله:
"ثم أقسم بوالد وما ولد، ليلفت نظرنا إلى رفعة قدر هذا الطور من أطوار الوجود - وهو طور التوالد - وإلى ما فيه من بالغ الحكمة وإتقان الصنع، وإلى ما يعانيه الوالد والمولود في إبداء النشء وتكميل الناشئ، وإبلاغه حده من النمو المقدر له".
"فإذا تصورت في النبات كم تعاني البذرة في أطوار النمو: من مقاومة فواعل الجو، ومحاولة امتصاص الغذاء مما حولها من العناصر، إلى أن تستقيم شجرة ذات فروع وأغصان، وتستعد إلى أن تلد بذرة أو بذورا أخرى تعمل عملها، وتزين الوجود بجمال منظرها - إذا أحضرت ذلك في ذهنك، والتفت إلى ما فوق النبات من الحيوان والإنسان، حضر لك من أمر الوالد والمولود فيهما ما هو أعظم، ووجدت من المكابدة والعناء الذي يلاقيه كل منهما في سبيل حفظ الأنواع، واستبقاء جمال الكون بصورها ما هو أشد وأجسم".. انتهى..
يقسم هذا القسم على حقيقة ثابتة في حياة الكائن الإنساني:
لقد خلقنا الإنسان في كبد ..
في مكابدة ومشقة، وجهد وكد، وكفاح وكدح.. كما قال في السورة الأخرى: يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ..
الخلية الأولى لا تستقر في الرحم حتى تبدأ في الكبد والكدح والنصب لتوفر لنفسها الظروف الملائمة للحياة والغذاء - بإذن ربها - وما تزال كذلك حتى تنتهي إلى المخرج، فتذوق من المخاض - إلى جانب ما تذوقه الوالدة - ما تذوق. وما يكاد الجنين يرى النور حتى يكون قد ضغط ودفع حتى كاد يختنق في مخرجه من الرحم!
ومنذ هذه اللحظة يبدأ الجهد الأشق والكبد الأمر. يبدأ الجنين ليتنفس هذا الهواء الذي لا عهد له به، ويفتح فمه ورئتيه لأول مرة ليشهق ويزفر في صراخ يشي بمشقة البداية! وتبدأ دورته الهضمية ودورته الدموية في العمل على غير عادة! ويعاني في إخراج الفضلات حتى يروض أمعاءه على هذا العمل الجديد! وكل خطوة بعد ذلك كبد، وكل حركة بعد ذلك كبد. والذي يلاحظ الوليد عند ما يهم بالحبو وعند ما يهم بالمشي يدرك كم يبذل من الجهد العنيف للقيام بهذه الحركة الساذجة.
وعند بروز الأسنان كبد. وعند انتصاب القامة كبد. وعند الخطو الثابت كبد. وعند التعلم كبد. وعند التفكر كبد. وفي كل تجربة جديدة كبد كتجربة الحبو والمشي سواء!
ثم تفترق الطرق، وتتنوع المشاق هذا يكدح بعضلاته. وهذا يكدح بفكره. وهذا يكدح بروحه. وهذا يكدح للقمة العيش وخرقة الكساء. وهذا يكدح ليجعل الألف ألفين وعشرة آلاف.. وهذا يكدح لملك أو جاه، [ ص: 3910 ] وهذا يكدح في سبيل الله. وهذا يكدح لشهوة ونزوة. وهذا يكدح لعقيدة ودعوة. وهذا يكدح إلى النار. وهذا يكدح إلى الجنة.. والكل يحمل حمله ويصعد الطريق كادحا إلى ربه فيلقاه! وهناك يكون الكبد الأكبر للأشقياء. وتكون الراحة الكبرى للسعداء.
إنه الكبد طبيعة الحياة الدنيا. تختلف أشكاله وأسبابه. ولكنه هو الكبد في النهاية. فأخسر الخاسرين هو من يعاني كبد الحياة الدنيا لينتهي إلى الكبد الأشق الأمر في الأخرى. وأفلح الفالحين من يكدح في الطريق إلى ربه ليلقاه بمؤهلات تنهي عنه كبد الحياة، وتنتهي به إلى الراحة الكبرى في ظلال الله.
على أن في الأرض ذاتها بعض الجزاء على ألوان الكدح والعناء. إن الذي يكدح للأمر الجليل ليس كالذي يكدح للأمر الحقير. ليس مثله طمأنينة بال وارتياحا للبذل، واسترواحا بالتضحية، فالذي يكدح وهو طليق من أثقال الطين، أو للانطلاق من هذه الأثقال، ليس كالذي يكدح ليغوص في الوحل ويلصق بالأرض كالحشرات والديدان! والذي يموت في سبيل دعوة ليس كالذي يموت في سبيل نزوة.. ليس مثله في خاصة شعوره بالجهد والكبد الذي يلقاه.
وبعد تقرير هذه الحقيقة عن طبيعة الحياة الإنسانية يناقش بعض دعاوى "الإنسان" وتصوراته التي تشي بها تصرفاته:
أيحسب أن لن يقدر عليه أحد؟ يقول: أهلكت مالا لبدا. أيحسب أن لم يره أحد؟ .
إن هذا "الإنسان" المخلوق في كبد، الذي لا يخلص من عناء الكدح والكد، لينسى حقيقة حاله وينخدع بما يعطيه خالقه من أطراف القوة والقدرة والوجدان والمتاع، فيتصرف تصرف الذي لا يحسب أنه مأخوذ بعمله، ولا يتوقع أن يقدر عليه قادر فيحاسبه.. فيطغى ويبطش ويسلب وينهب، ويجمع ويكثر، ويفسق ويفجر، دون أن يخشى ودون أن يتحرج.. وهذه هي صفة الإنسان الذي يعرى قلبه من الإيمان.
ثم إنه إذا دعي للخير والبذل (في مثل المواضع التي ورد ذكرها في السورة) يقول: أهلكت مالا لبدا .. وأنفقت شيئا كثيرا فحسبي ما أنفقت وما بذلت! أيحسب أن لم يره أحد ؟ وينسى أن عين الله عليه، وأن علمه محيط به، فهو يرى ما أنفق، ولماذا أنفق؟ ولكن هذا "الإنسان" كأنما ينسى هذه الحقيقة، ويحسب أنه في خفاء عن عين الله!
وأمام هذا الغرور الذي يخيل للإنسان أنه ذو منعة وقوة، وأمام ضنه بالمال وادعائه أنه بذل الكثير، يجابهه القرآن بفيض الآلاء عليه في خاصة نفسه، وفي صميم تكوينه، وفي خصائص طبيعته واستعداداته، تلك الآلاء التي لم يشكرها ولم يقم بحقها عنده:
ألم نجعل له عينين؟ ولسانا وشفتين؟ وهديناه النجدين؟ ..
إن الإنسان يغتر بقوته، والله هو المنعم عليه بهذا القدر من القوة. ويضن بالمال. والله هو المنعم عليه بهذا المال. ولا يهتدي ولا يشكر، وقد جعل له من الحواس ما يهديه في عالم المحسوسات: جعل له عينين على هذا القدر من الدقة في تركيبهما وفي قدرتهما على الإبصار. وميزه بالنطق، وأعطاه أداته المحكمة: ولسانا وشفتين .. ثم أودع نفسه خصائص القدرة على إدراك الخير والشر، والهدى والضلال، والحق والباطل: وهديناه النجدين [ ص: 3911 ] . ليختار أيهما شاء، ففي طبيعته هذا الاستعداد المزدوج لسلوك أي النجدين. والنجد الطريق المرتفع. وقد اقتضت مشيئة الله أن تمنحه القدرة على سلوك أيهما شاء، وأن تخلقه بهذا الازدواج طبقا لحكمة الله في الخلق، وإعطاء كل شيء خلقه، وتيسيره لوظيفته في هذا الوجود.
وهذه الآية تكشف عن حقيقة الطبيعة الإنسانية; كما أنها تمثل قاعدة "النظرية النفسية الإسلامية" هي والآيات الأخرى في سورة الشمس: ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها (وسنرجئ عرضها بشيء من التفصيل إلى الموضع الآخر في سورة الشمس لأنه أوسع مجالا) .
هذه الآلاء التي أفاضها الله على في خاصة نفسه، وفي صميم تكوينه، والتي من شأنها أن تعينه على الهدى: عيناه بما تريان في صفحات هذا الكون من دلائل القدرة وموحيات الإيمان; وهي معروضة في صفحات الكون مبثوثة في حناياه. ولسانه وشفتاه وهما أداة البيان والتعبير; وعنهما يملك الإنسان أن يفعل الشيء الكثير. والكلمة أحيانا تقوم مقام السيف والقذيفة وأكثر; وأحيانا تهوي بصاحبها في النار كما ترفعه أو تخفضه. في هذه النار.. "عن جنس الإنسان رضي الله عنه قال: معاذ بن جبل قلت: بلى يا رسول الله. قال: أبواب الخير؟ والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل شعار الصالحين، ثم تلا قوله تعالى: الصوم جنة، تتجافى جنوبهم عن المضاجع.... ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد. ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: كف عليك هذا، وأشار إلى لسانه. قلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك! وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو قال: على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم؟" رواه كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصبحت يوما قريبا منه، ونحن نسير، فقلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار. قال: سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت. ثم قال: ألا أدلك على أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة.
وهدايته إلى إدراك الخير والشر، ومعرفة الطريق إلى الجنة والطريق إلى النار، وإعانته على الخير بهذه الهداية..
هذه الآلاء كلها لم تدفع هذا "الإنسان" إلى اقتحام العقبة التي تحول بينه وبين الجنة. هذه العقبة التي يبينها الله له في هذه الآيات: