[ ص: 3929 ] (94) سورة الشرح مكية
وآياتها ثمان
بسم الله الرحمن الرحيم
ألم نشرح لك صدرك (1) ووضعنا عنك وزرك (2) الذي أنقض ظهرك (3) ورفعنا لك ذكرك (4) فإن مع العسر يسرا (5) إن مع العسر يسرا (6) فإذا فرغت فانصب (7) وإلى ربك فارغب (8)
نزلت هذه السورة بعد سورة الضحى. وكأنها تكملة لها. فيها ظل العطف الندي. وفيها روح المناجاة الحبيب. وفيها استحضار مظاهر العناية. واستعراض مواقع الرعاية. وفيها البشرى باليسر والفرج. وفيها التوجيه إلى سر اليسر وحبل الاتصال الوثيق..
ألم نشرح لك صدرك؟ ووضعنا عنك وزرك. الذي أنقض ظهرك؟ ورفعنا لك ذكرك؟ وهي توحي بأن هناك ضائقة كانت في روح الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمر من أمور هذه الدعوة التي كلفها، ومن العقبات الوعرة في طريقها; ومن الكيد والمكر المضروب حولها.. توحي بأن صدره - صلى الله عليه وسلم - كان مثقلا بهموم هذه الدعوة الثقيلة، وأنه كان يحس العبء فادحا على كاهله. وأنه كان في حاجة إلى عون ومدد وزاد ورصيد..
ثم كانت هذه المناجاة الحلوة، وهذا الحديث الودود!
ألم نشرح لك صدرك؟ .. ألم نشرح صدرك لهذه الدعوة؟ ونيسر لك أمرها؟. ونجعلها حبيبة لقلبك، ونشرع لك طريقها؟ وننر لك الطريق حتى ترى نهايته السعيدة!
فتش في صدرك - ألا تجد فيه الروح والانشراح والإشراق والنور؟ واستعد في حسك مذاق هذا العطاء، وقل: ألا تجد معه المتاع مع كل مشقة والراحة مع كل تعب، واليسر مع كل عسر، والرضى مع كل حرمان؟
ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك .. ووضعنا عنك عبئك الذي أثقل ظهرك حتى كاد يحطمه من ثقله.. وضعناه عنك بشرح صدرك له فخف وهان. وبتوفيقك وتيسيرك للدعوة ومداخل القلوب. وبالوحي الذي يكشف لك عن الحقيقة ويعينك على التسلل بها إلى النفوس في يسر وهوادة ولين.
[ ص: 3930 ] ألا تجد ذلك في العبء الذي أنقض ظهرك؟ ألا تجد عبئك خفيفا بعد أن شرحنا لك صدرك؟
ورفعنا لك ذكرك .. رفعناه في الملإ الأعلى، ورفعناه في الأرض، ورفعناه في هذا الوجود جميعا..
رفعناه فجعلنا اسمك مقرونا باسم الله كلما تحركت به الشفاه:
"لا إله إلا الله. محمد رسول الله".. وليس بعد هذا رفع، وليس وراء هذا منزلة. وهو المقام الذي تفرد به - صلى الله عليه وسلم - دون سائر العالمين..
ورفعنا لك ذكرك في اللوح المحفوظ، حين قدر الله أن تمر القرون، وتكر الأجيال، وملايين الشفاه في كل مكان تهتف بهذا الاسم الكريم، مع الصلاة والتسليم، والحب العميق العظيم.
ورفعنا لك ذكرك. وقد ارتبط بهذا المنهج الإلهي الرفيع. وكان مجرد الاختيار لهذا الأمر رفعة ذكر لم ينلها أحد من قبل ولا من بعد في هذا الوجود..
فأين تقع المشقة والتعب والضنى من هذا العطاء الذي يمسح على كل مشقة وكل عناء؟
ومع هذا فإن الله يتلطف مع حبيبه المختار، ويسري عنه، ويؤنسه، ويطمئنه ويطلعه على اليسر الذي لا لا يفارقه:
فإن مع العسر يسرا. إن مع العسر يسرا ..
إن العسر لا يخلو من يسر يصاحبه ويلازمه. وقد لازمه معك فعلا. فحينما ثقل العبء شرحنا لك صدرك، فخف حملك، الذي أنقض ظهرك. وكان اليسر مصاحبا للعسر، يرفع إصره، ويضع ثقله.
وإنه لأمر مؤكد يكرره بألفاظه: فإن مع العسر يسرا. إن مع العسر يسرا .. وهذا التكرار يشي بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان في عسرة وضيق ومشقة، اقتضت هذه الملاحظة، وهذا التذكير، وهذا الاستحضار لمظاهر العناية، وهذا الاستعراض لمواقع الرعاية، وهذا التوكيد بكل ضروب التوكيد.. والأمر الذي يثقل على نفس محمد هكذا لا بد أنه كان أمرا عظيما..
ثم يجيء التوجيه الكريم لمواقع التيسير، وأسباب الانشراح، ومستودع الري والزاد في الطريق الشاق الطويل:
فإذا فرغت فانصب. وإلى ربك فارغب ..
إن مع العسر يسرا.. فخذ في أسباب اليسر والتيسير. فإذا فرغت من شغلك مع الناس ومع الأرض، ومع شواغل الحياة.. إذا فرغت من هذا كله فتوجه بقلبك كله إذن إلى ما يستحق أن تنصب فيه وتكد وتجهد.. العبادة والتجرد والتطلع والتوجه.. وإلى ربك فارغب .. إلى ربك وحده خاليا من كل شيء حتى من أمر الناس الذين تشتغل بدعوتهم.. إنه لا بد من الزاد للطريق. وهنا الزاد. ولا بد من العدة للجهاد. وهنا العدة.. وهنا ستجد يسرا مع كل عسر، وفرجا مع كل ضيق.. هذا هو الطريق!
وتنتهي هذه السورة كما انتهت سورة الضحى، وقد تركت في النفس شعورين ممتزجين: الشعور بعظمة الود الحبيب الجليل الذي ينسم على روح الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ربه الودود الرحيم. والشعور بالعطف على شخصه - صلى الله عليه وسلم - ونحن نكاد نلمس ما كان يساور قلبه الكريم في هذه الآونة [ ص: 3931 ] التي اقتضت ذلك الود الجميل.
إنها الدعوة. هذه الأمانة الثقيلة وهذا العبء الذي ينقض الظهر. وهي مع هذا وهذا مشرق النور الإلهي ومهبطه، ووصلة الفناء بالبقاء، والعدم بالوجود!