ها نحن أولاء - بعين البصيرة في ومضات الاستشراف - في ساحة الملأ الأعلى; وها نحن أولاء نسمع ونرى قصة البشرية الأولى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30وإذ قال ربك للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة ..
وإذن فهي المشيئة العليا تريد أن تسلم لهذا الكائن الجديد في الوجود، زمام هذه الأرض، وتطلق فيها يده، وتكل إليه إبراز مشيئة الخالق في الإبداع والتكوين، والتحليل والتركيب، والتحوير والتبديل; وكشف ما في هذه الأرض من قوى وطاقات، وكنوز وخامات، وتسخير هذا كله - بإذن الله - في المهمة الضخمة التي وكلها الله إليه.
وإذن فقد وهب هذا الكائن الجديد من الطاقات الكامنة، والاستعدادات المذخورة كفاء ما في هذه الأرض من قوى وطاقات، وكنوز وخامات; ووهب من القوى الخفية ما يحقق المشيئة الإلهية.
وإذن فهنالك وحدة أو تناسق بين النواميس التي تحكم الأرض - وتحكم الكون كله - والنواميس التي تحكم هذا المخلوق وقواه وطاقاته، كي لا يقع التصادم بين هذه النواميس وتلك; وكي لا تتحطم طاقة الإنسان على صخرة الكون الضخمة!.
وإذن فهي منزلة عظيمة، منزلة هذا الإنسان، في نظام الوجود على هذه الأرض الفسيحة . وهو التكريم الذي شاءه له خالقه الكريم.
هذا كله بعض إيحاء التعبير العلوي الجليل:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30إني جاعل في الأرض خليفة .. حين نتملاه اليوم بالحس اليقظ والبصيرة المفتوحة، ورؤية ما تم في الأرض على يد هذا الكائن المستخلف في هذا الملك العريض!
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ..
ويوحي قول الملائكة هذا بأنه كان لديهم من شواهد الحال، أو من تجارب سابقة في الأرض، أو من إلهام البصيرة، ما يكشف لهم عن شيء من فطرة هذا المخلوق، أو من مقتضيات حياته على الأرض; وما يجعلهم يعرفون أو يتوقعون أنه سيفسد في الأرض، وأنه سيسفك الدماء.. ثم هم - بفطرة الملائكة البريئة التي لا تتصور إلا الخير المطلق، وإلا السلام الشامل - يرون التسبيح بحمد الله والتقديس له ، هو وحده الغاية المطلقة للوجود، وهو وحده العلة الأولى للخلق.. وهو متحقق بوجودهم هم، يسبحون بحمد الله ويقدسون له،
[ ص: 57 ] ويعبدونه ولا يفترون عن عبادته!.
لقد خفيت عليهم
nindex.php?page=treesubj&link=28783حكمة المشيئة العليا، في بناء هذه الأرض وعمارتها ، وفي تنمية الحياة وتنويعها، وفي تحقيق إرادة الخالق وناموس الوجود في تطويرها وترقيتها وتعديلها، على يد خليفة الله في أرضه. هذا الذي قد يفسد أحيانا، وقد يسفك الدماء أحيانا، ليتم من وراء هذا الشر الجزئي الظاهر خير أكبر وأشمل. خير النمو الدائم، والرقي الدائم. خير الحركة الهادمة البانية. خير المحاولة التي لا تكف، والتطلع الذي لا يقف، والتغيير والتطوير في هذا الملك الكبير.
عندئذ جاءهم القرار من العليم بكل شيء، والخبير بمصائر الأمور:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30قال إني أعلم ما لا تعلمون ..
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=31وعلم آدم الأسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة، فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=32قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=33قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ..
ها نحن أولاء - بعين البصيرة في ومضات الاستشراف - نشهد ما شهده الملائكة في الملأ الأعلى.. ها نحن أولاء نشهد طرفا من ذلك السر الإلهي العظيم الذي أودعه الله هذا الكائن البشري ، وهو يسلمه مقاليد الخلافة. سر القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات. سر القدرة على تسمية الأشخاص والأشياء بأسماء يجعلها - وهي ألفاظ منطوقة - رموزا لتلك الأشخاص والأشياء المحسوسة. وهي قدرة ذات قيمة كبرى في حياة الإنسان على الأرض. ندرك قيمتها حين نتصور الصعوبة الكبرى، لو لم يوهب الإنسان القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات، والمشقة في التفاهم والتعامل، حين يحتاج كل فرد لكي يتفاهم مع الآخرين على شيء أن يستحضر هذا الشيء بذاته أمامهم ليتفاهموا بشأنه.. الشأن شأن نخلة فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا باستحضار جسم النخلة! الشأن شأن جبل. فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا بالذهاب إلى الجبل! الشأن شأن فرد من الناس فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا بتحضير هذا الفرد من الناس ... إنها مشقة هائلة لا تتصور معها حياة! وإن الحياة ما كانت لتمضي في طريقها لو لم يودع الله هذا الكائن القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات.
فأما الملائكة فلا حاجة لهم بهذه الخاصية، لأنها لا ضرورة لها في وظيفتهم. ومن ثم لم توهب لهم. فلما علم الله
آدم هذا السر، وعرض عليهم ما عرض لم يعرفوا الأسماء. لم يعرفوا كيف يضعون الرموز اللفظية للأشياء والشخوص.. وجهروا أمام هذا العجز بتسبيح ربهم، والاعتراف بعجزهم، والإقرار بحدود علمهم، وهو ما علمهم.. وعرف
آدم .. ثم كان هذا التعقيب الذي يردهم إلى إدراك حكمة العليم الحكيم:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=33قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ..
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=34وإذ قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم. فسجدوا ..
إنه التكريم في أعلى صوره، لهذا المخلوق الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء، ولكنه وهب من الأسرار ما يرفعه على الملائكة. لقد وهب سر المعرفة، كما وهب سر الإرادة المستقلة التي تختار الطريق.. إن ازدواج طبيعته وقدرته على تحكيم إرادته في شق طريقه، واضطلاعه بأمانة الهداية إلى الله بمحاولته الخاصة..
إن هذا كله بعض أسرار تكريمه.
ولقد سجد الملائكة امتثالا للأمر العلوي الجليل..
[ ص: 58 ] nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=34إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين ..
وهنا تتبدى خليقة الشر مجسمة: عصيان الجليل سبحانه! والاستكبار عن معرفة الفضل لأهله. والعزة بالإثم. والاستغلاق عن الفهم.
ويوحي السياق أن
nindex.php?page=treesubj&link=31771_31766إبليس لم يكن من جنس الملائكة، إنما كان معهم. فلو كان منهم ما عصى. وصفتهم الأولى أنهم
nindex.php?page=tafseer&surano=66&ayano=6لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .. والاستثناء هنا لا يدل على أنه من جنسهم، فكونه معهم يجيز هذا الاستثناء، كما تقول: جاء بنو فلان إلا أحمد. وليس منهم إنما هو عشيرهم وإبليس من الجن بنص القرآن ، والله خلق الجان من مارج من نار. وهذا يقطع بأنه ليس من الملائكة.
والآن. لقد انكشف ميدان المعركة الخالدة. المعركة بين خليقة الشر في إبليس، وخليفة الله في الأرض.
المعركة الخالدة في ضمير الإنسان. المعركة التي ينتصر فيها الخير بمقدار ما يستعصم الإنسان لشهوته. ويبعد عن ربه:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=35وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ..
لقد أبيحت لهما كل ثمار الجنة.. إلا شجرة.. شجرة واحدة، ربما كانت ترمز للمحظور الذي لا بد منه في حياة الأرض. فبغير محظور لا تنبت الإرادة ، ولا يتميز الإنسان المريد من الحيوان المسوق، ولا يمتحن صبر الإنسان على الوفاء بالعهد والتقيد بالشرط. فالإرادة هي مفرق الطريق. والذين يستمتعون بلا إرادة هم من عالم البهيمة، ولو بدوا في شكل الآدميين!.
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=36فأزلهما الشيطان عنها، فأخرجهما مما كانا فيه ..
ويا للتعبير المصور:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=36فأزلهما .. إنه لفظ يرسم صورة الحركة التي يعبر عنها. وإنك لتكاد تلمح الشيطان وهو يزحزحهما عن الجنة، ويدفع بأقدامهما فتزل وتهوى!.
عندئذ تمت التجربة: نسي
آدم عهده، وضعف أمام الغواية. وعندئذ حقت كلمة الله، وصرح قضاؤه:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=36وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو، ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ..
وكان هذا إيذانا بانطلاق المعركة في مجالها المقدر لها. بين الشيطان والإنسان. إلى آخر الزمان.
ونهض
آدم من عثرته، بما ركب في فطرته، وأدركته رحمة ربه التي تدركه دائما عندما يثوب إليها، ويلوذ بها.
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=37فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه، إنه هو التواب الرحيم ..
وتمت كلمة الله الأخيرة، وعهده الدائم مع
آدم وذريته. عهد الاستخلاف في هذه الأرض، وشرط الفلاح فيها أو البوار.
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=38قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=39والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ..
وانتقلت المعركة الخالدة إلى ميدانها الأصيل، وانطلقت من عقالها ما تهدأ لحظة وما تفتر. وعرف الإنسان في فجر البشرية كيف ينتصر إذا شاء الانتصار، وكيف ينكسر إذا اختار لنفسه الخسار ...
[ ص: 59 ] وبعد فلا بد من عودة إلى مطالع القصة. قصة البشرية الأولى.
لقد قال الله تعالى للملائكة:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30إني جاعل في الأرض خليفة .. وإذن
فآدم مخلوق لهذه الأرض منذ اللحظة الأولى. ففيم إذن كانت تلك الشجرة المحرمة؟ وفيم إذن كان بلاء
آدم ؟ وفيم إذن كان الهبوط إلى الأرض، وهو مخلوق لهذه الأرض منذ اللحظة الأولى؟
لعلني ألمح أن هذه التجربة كانت تربية لهذا الخليفة وإعدادا. كانت إيقاظا للقوى المذخورة في كيانه. كانت تدريبا له على تلقي الغواية، وتذوق العاقبة، وتجرع الندامة، ومعرفة العدو، والالتجاء بعد ذلك إلى الملاذ الأمين.
إن قصة الشجرة المحرمة، ووسوسة الشيطان باللذة، ونسيان العهد بالمعصية، والصحوة من بعد السكرة، والندم وطلب المغفرة.. إنها هي هي تجربة البشرية المتجددة المكرورة!.
لقد اقتضت رحمة الله بهذا المخلوق أن يهبط إلى مقر خلافته ، مزودا بهذه التجربة التي سيتعرض لمثلها طويلا، استعدادا للمعركة الدائبة وموعظة وتحذيرا..
وبعد.. مرة أخرى.. فأين كان هذا الذي كان؟ وما الجنة التي عاش فيها
آدم وزوجه حينا من الزمان؟
ومن هم الملائكة؟ ومن هو إبليس؟ .. كيف قال الله تعالى لهم؟ وكيف أجابوه؟ ..
هذا وأمثاله في القرآن الكريم غيب من الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه وعلم بحكمته أن لا جدوى للبشر في معرفة كنهه وطبيعته، فلم يهب لهم القدرة على إدراكه والإحاطة به، بالأداة التي وهبهم إياها لخلافة الأرض، وليس من مستلزمات الخلافة أن نطلع على هذا الغيب. وبقدر ما سخر الله للإنسان من النواميس الكونية وعرفه بأسرارها، بقدر ما حجب عنه أسرار الغيب، فيما لا جدوى له في معرفته. وما يزال الإنسان مثلا على الرغم من كل ما فتح له من الأسرار الكونية يجهل ما وراء اللحظة الحاضرة جهلا مطلقا، ولا يملك بأي أداة من أدوات المعرفة المتاحة له أن يعرف ماذا سيحدث له بعد لحظة، وهل النفس الذي خرج من فمه عائد أم هو آخر أنفاسه؟ وهذا مثل من الغيب المحجوب عن البشر، لأنه لا يدخل في مقتضيات الخلافة، بل ربما كان معوقا لها لو كشف للإنسان عنه! وهنالك ألوان من مثل هذه الأسرار المحجوبة عن الإنسان، في طي الغيب الذي لا يعلمه إلا الله.
ومن ثم لم يعد للعقل البشري أن يخوض فيه، لأنه لا يملك الوسيلة للوصول إلى شيء من أمره. وكل جهد يبذل في هذه المحاولة هو جهد ضائع، ذاهب سدى، بلا ثمرة ولا جدوى.
وإذا كان
nindex.php?page=treesubj&link=28783_29692العقل البشري لم يوهب الوسيلة للاطلاع على هذا الغيب المحجوب; فليس سبيله إذن أن يتبجح فينكر.. فالإنكار حكم يحتاج إلى المعرفة. والمعرفة هنا ليست من طبيعة العقل، وليست في طوق وسائله، ولا هي ضرورية له في وظيفته!.
إن الاستسلام للوهم والخرافة شديد الضرر بالغ الخطورة. ولكن أضر منه وأخطر، التنكر للمجهول كله وإنكاره، واستبعاد الغيب لمجرد عدم القدرة على الإحاطة به .. إنها تكون نكسة إلى عالم الحيوان الذي يعيش في المحسوس وحده، ولا ينفذ من أسواره إلى الوجود الطليق.
فلندع هذا الغيب إذن لصاحبه، وحسبنا ما يقص لنا عنه، بالقدر الذي يصلح لنا في حياتنا، ويصلح سرائرنا ومعاشنا. ولنأخذ من القصة ما تشير إليه من حقائق كونية وإنسانية، ومن تصور للوجود وارتباطاته، ومن إيحاء بطبيعة الإنسان وقيمه وموازينه.. فذلك وحده أنفع للبشرية وأهدى.
[ ص: 60 ] وفي اختصار يناسب ظلال القرآن سنحاول أن نمر بهذه الإيحاءات والتصورات والحقائق مرورا مجملا سريعا.
إن أبرز إيحاءات قصة
آدم - كما وردت في هذا الموضع - هو القيمة الكبرى التي يعطيها التصور الإسلامي للإنسان ولدوره في الأرض ، ولمكانه في نظام الوجود، وللقيم التي يوزن بها. ثم لحقيقة ارتباطه بعهد الله، وحقيقة هذا العهد الذي قامت خلافته على أساسه..
وتتبدى تلك القيمة الكبرى التي يعطيها التصور الإسلامي للإنسان في الإعلان العلوي الجليل في الملأ الأعلى الكريم، أنه مخلوق ليكون خليفة في الأرض; كما تتبدى في أمر الملائكة بالسجود له. وفي طرد إبليس الذي استكبر وأبى، وفي رعاية الله له أولا وأخيرا..
ومن هذه النظرة للإنسان تنبثق جملة اعتبارات ذات قيمة كبيرة في عالم التصور وفي عالم الواقع على السواء.
وأول اعتبار من هذه الاعتبارات هو أن الإنسان سيد هذه الأرض، ومن أجله خلق كل شيء فيها - كما تقدم ذلك نصا - فهو إذن أعز وأكرم وأغلى من كل شيء مادي، ومن كل قيمة مادية في هذه الأرض جميعا. ولا يجوز إذن أن يستعبد أو يستذل لقاء توفير قيمة مادية أو شيء مادي.. لا يجوز أن يعتدي على أي مقوم من مقومات إنسانيته الكريمة، ولا أن تهدر أية قيمة من قيمه لقاء تحقيق أي كسب مادي، أو إنتاج أي شيء مادي، أو تكثير أي عنصر مادي.. فهذه الماديات كلها مخلوقة - أو مصنوعة - من أجله. من أجل تحقيق إنسانيته. من أجل تقرير وجوده الإنساني. فلا يجوز إذن أن يكون ثمنها هو سلب قيمة من قيمه الإنسانية، أو نقص مقوم من مقومات كرامته.
والاعتبار الثاني هو أن دور الإنسان في الأرض هو الدور الأول. فهو الذي يغير ويبدل في أشكالها وفي ارتباطاتها; وهو الذي يقود اتجاهاتها ورحلاتها. وليست وسائل الإنتاج ولا توزيع الإنتاج، هي التي تقود الإنسان وراءها ذليلا سلبيا كما تصوره المذاهب المادية التي تحقر من دور الإنسان وتصغر بقدر ما تعظم في دور الآلة وتكبر!.
إن النظرة القرآنية تجعل هذا الإنسان بخلافته في الأرض، عاملا مهما في نظام الكون، ملحوظا في هذا النظام. فخلافته في الأرض تتعلق بارتباطات شتى مع السماوات ومع الرياح ومع الأمطار، ومع الشموس والكواكب.. وكلها ملحوظ في تصميمها وهندستها إمكان قيام الحياة على الأرض، وإمكان قيام هذا الإنسان بالخلافة.. فأين هذا المكان الملحوظ من ذلك الدور الذليل الصغير الذي تخصصه له المذاهب المادية، ولا تسمح له أن يتعداه؟!.
وما من شك أن كلا من نظرة الإسلام هذه ونظرة المادية للإنسان تؤثر في طبيعة النظام الذي تقيمه هذه وتلك للإنسان; وطبيعة احترام المقومات الإنسانية أو إهدارها; وطبيعة تكريم هذا الإنسان أو تحقيره..
وليس ما نراه في العالم المادي من إهدار كل حريات الإنسان وحرماته ومقوماته في سبيل توفير الإنتاج المادي وتكثيره، إلا أثرا من آثار تلك النظرة إلى حقيقة الإنسان، وحقيقة دوره في هذه الأرض!.
كذلك ينشأ عن نظرة الإسلام الرفيعة إلى حقيقة الإنسان ووظيفته إعلاء القيم الأدبية في وزنه وتقديره، وإعلاء قيمة الفضائل الخلقية، وتكبير قيم الإيمان والصلاح والإخلاص في حياته. فهذه هي القيم التي يقوم عليها عهد استخلافه:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=38فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ... وهذه القيم أعلى وأكرم من جميع القيم المادية - هذا مع أن من مفهوم الخلافة تحقيق هذه القيم المادية، ولكن بحيث لا
[ ص: 61 ] تصبح هي الأصل ولا تطغى على تلك القيم العليا - ولهذا وزنه في توجيه القلب البشري إلى الطهارة والارتفاع والنظافة في حياته. بخلاف ما توحيه المذاهب المادية من استهزاء بكل القيم الروحية، وإهدار لكل القيم الأدبية، في سبيل الاهتمام المجرد بالإنتاج والسلع ومطالب البطون كالحيوان !.
وفي التصور الإسلامي إعلاء من شأن الإرادة في الإنسان فهي مناط العهد مع الله، وهي مناط التكليف والجزاء.. إنه يملك الارتفاع على مقام الملائكة بحفظ عهده مع ربه عن طريق تحكيم إرادته، وعدم الخضوع لشهواته، والاستعلاء على الغواية التي توجه إليه. بينما يملك أن يشقي نفسه ويهبط من عليائه، بتغليب الشهوة على الإرادة، والغواية على الهداية، ونسيان العهد الذي يرفعه إلى مولاه. وفي هذا مظهر من مظاهر التكريم لا شك فيه، يضاف إلى عناصر التكريم الأخرى. كما أن فيه تذكيرا دائما بمفرق الطريق بين السعادة والشقاوة، والرفعة والهبوط، ومقام الإنسان المريد ودرك الحيوان المسوق!.
وفي أحداث المعركة التي تصورها القصة بين الإنسان والشيطان مذكر دائم بطبيعة المعركة. إنها بين عهد الله وغواية الشيطان بين الإيمان والكفر. بين الحق والباطل. بين الهدى والضلال.. والإنسان هو نفسه ميدان المعركة. وهو نفسه الكاسب أو الخاسر فيها. وفي هذا إيحاء دائم له باليقظة; وتوجيه دائم له بأنه جندي في ميدان; وأنه هو صاحب الغنيمة أو السلب في هذا الميدان!.
وأخيرا تجيء فكرة الإسلام عن الخطيئة والتوبة .. إن الخطيئة فردية والتوبة فردية. في تصور واضح بسيط لا تعقيد فيه ولا غموض.. ليست هنالك خطيئة مفروضة على الإنسان قبل مولده - كما تقول نظرية الكنيسة - وليس هنالك تكفير لاهوتي، كالذي تقول الكنيسة إن
عيسى - عليه السلام - "ابن الله بزعمهم" قام به بصلبه، تخليصا لبني
آدم من خطيئة
آدم ! .. كلا! خطيئة
آدم كانت خطيئة الشخصية، والخلاص منها كان بالتوبة المباشرة في يسر وبساطة. وخطيئة كل ولد من أولاده خطيئة كذلك شخصية، والطريق مفتوح للتوبة في يسر وبساطة .. تصور مريح صريح. يحمل كل إنسان وزره، ويوحي إلى كل إنسان بالجهد والمحاولة وعدم اليأس والقنوط..
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=12إن الله تواب رحيم ..
هذا طرف من إيحاءات قصة
آدم - في هذا الموضع - نكتفي به في ظلال القرآن. وهو وحده ثروة من الحقائق والتصورات القويمة; وثروة من الإيحاءات والتوجيهات الكريمة; وثروة من الأسس التي يقوم عليها تصور اجتماعي وأوضاع اجتماعية، يحكمها الخلق والخير والفضيلة. ومن هذا الطرف نستطيع أن ندرك أهمية القصص القرآني في تركيز قواعد التصور الإسلامي ; وإيضاح القيم التي يرتكز عليها. وهي القيم التي تليق بعالم صادر عن الله، متجه إلى الله، صائر إلى الله في نهاية المطاف.. عقد الاستخلاف فيه قائم على تلقي الهدى من الله، والتقيد بمنهجه في الحياة. ومفرق الطريق فيه أن يسمع الإنسان ويطيع لما يتلقاه من الله، أو أن يسمع الإنسان ويطيع لما يمليه عليه الشيطان. وليس هناك طريق ثالث.. إما الله وإما الشيطان. إما الهدى وإما الضلال. إما الحق وإما الباطل. إما الفلاح وإما الخسران.. وهذه الحقيقة هي التي يعبر عنها القرآن كله، بوصفها الحقيقة الأولى، التي تقوم عليها سائر التصورات، وسائر الأوضاع في عالم الإنسان..
هَا نَحْنُ أُولَاءِ - بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ فِي وَمْضَاتِ الِاسْتِشْرَافِ - فِي سَاحَةِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى; وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ نَسْمَعُ وَنَرَى قِصَّةَ الْبَشَرِيَّةِ الْأُولَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ..
وَإِذَنْ فَهِيَ الْمَشِيئَةُ الْعُلْيَا تُرِيدُ أَنْ تُسَلِّمَ لِهَذَا الْكَائِنِ الْجَدِيدِ فِي الْوُجُودِ، زِمَامَ هَذِهِ الْأَرْضِ، وَتُطْلِقُ فِيهَا يَدَهُ، وَتَكِلُ إِلَيْهِ إِبْرَازَ مَشِيئَةِ الْخَالِقِ فِي الْإِبْدَاعِ وَالتَّكْوِينِ، وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّرْكِيبِ، وَالتَّحْوِيرِ وَالتَّبْدِيلِ; وَكَشْفِ مَا فِي هَذِهِ الْأَرْضِ مِنْ قُوَى وَطَاقَاتٍ، وَكُنُوزٍ وَخَامَاتٍ، وَتَسْخِيرِ هَذَا كُلِّهِ - بِإِذْنِ اللَّهِ - فِي الْمُهِمَّةِ الضَّخْمَةِ الَّتِي وَكَلَهَا اللَّهُ إِلَيْهِ.
وَإِذْنْ فَقَدْ وَهَبَ هَذَا الْكَائِنَ الْجَدِيدَ مِنَ الطَّاقَاتِ الْكَامِنَةِ، وَالِاسْتِعْدَادَاتِ الْمَذْخُورَةِ كَفَاءَ مَا فِي هَذِهِ الْأَرْضِ مِنْ قُوَى وَطَاقَاتٍ، وَكُنُوزٍ وَخَامَاتٍ; وَوَهَبَ مِنَ الْقُوَى الْخَفِيَّةِ مَا يُحَقِّقُ الْمَشِيئَةَ الْإِلَهِيَّةَ.
وَإِذَنْ فَهُنَالِكَ وَحْدَةٌ أَوْ تَنَاسُقٌ بَيْنَ النَّوَامِيسِ الَّتِي تَحْكُمُ الْأَرْضَ - وَتَحْكُمُ الْكَوْنَ كُلَّهُ - وَالنَّوَامِيسَ الَّتِي تَحْكُمُ هَذَا الْمَخْلُوقَ وَقُوَاهُ وَطَاقَاتِهِ، كَيْ لَا يَقَعَ التَّصَادُمُ بَيْنَ هَذِهِ النَّوَامِيسِ وَتِلْكَ; وَكَيْ لَا تَتَحَطَّمَ طَاقَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى صَخْرَةِ الْكَوْنِ الضَّخْمَةِ!.
وَإِذَنْ فَهِيَ مَنْزِلَةٌ عَظِيمَةٌ، مَنْزِلَةُ هَذَا الْإِنْسَانِ، فِي نِظَامِ الْوُجُودِ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ الْفَسِيحَةِ . وَهُوَ التَّكْرِيمُ الَّذِي شَاءَهُ لَهُ خَالِقُهُ الْكَرِيمُ.
هَذَا كُلُّهُ بَعْضُ إِيحَاءِ التَّعْبِيرِ الْعُلْوِيِّ الْجَلِيلِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً .. حِينَ نَتَمَلَّاهُ الْيَوْمَ بِالْحِسِّ الْيَقِظِ وَالْبَصِيرَةِ الْمَفْتُوحَةِ، وَرُؤْيَةِ مَا تَمَّ فِي الْأَرْضِ عَلَى يَدِ هَذَا الْكَائِنِ الْمُسْتَخْلَفِ فِي هَذَا الْمُلْكِ الْعَرِيضِ!
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ..
وَيُوحِي قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ هَذَا بِأَنَّهُ كَانَ لَدَيْهِمْ مِنْ شَوَاهِدِ الْحَالُ، أَوْ مِنْ تَجَارِبَ سَابِقَةٍ فِي الْأَرْضِ، أَوْ مِنْ إِلْهَامِ الْبَصِيرَةِ، مَا يَكْشِفُ لَهُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْ فِطْرَةِ هَذَا الْمَخْلُوقِ، أَوْ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ حَيَاتِهِ عَلَى الْأَرْضِ; وَمَا يَجْعَلُهُمْ يَعْرِفُونَ أَوْ يَتَوَقَّعُونَ أَنَّهُ سَيَفْسَدُ فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ سَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ.. ثُمَّ هُمْ - بِفِطْرَةِ الْمَلَائِكَةِ الْبَرِيئَةِ الَّتِي لَا تَتَصَوَّرُ إِلَّا الْخَيْرَ الْمُطْلَقَ، وَإِلَّا السَّلَامَ الشَّامِلَ - يَرَوْنَ التَّسْبِيحَ بِحَمْدِ اللَّهِ وَالتَّقْدِيسَ لَهُ ، هُوَ وَحْدُهُ الْغَايَةَ الْمُطْلَقَةَ لِلْوُجُودِ، وَهُوَ وَحْدُهُ الْعِلَّةَ الْأُولَى لِلْخَلْقِ.. وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ بِوُجُودِهِمْ هُمْ، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ اللَّهِ وَيُقَدِّسُونَ لَهُ،
[ ص: 57 ] وَيَعْبُدُونَهُ وَلَا يَفْتَرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ!.
لَقَدْ خَفِيَتْ عَلَيْهِمْ
nindex.php?page=treesubj&link=28783حِكْمَةُ الْمَشِيئَةِ الْعُلْيَا، فِي بِنَاءِ هَذِهِ الْأَرْضِ وَعِمَارَتِهَا ، وَفِي تَنْمِيَةِ الْحَيَاةِ وَتَنْوِيعِهَا، وَفِي تَحْقِيقِ إِرَادَةِ الْخَالِقِ وَنَامُوسِ الْوُجُودِ فِي تَطْوِيرِهَا وَتَرْقِيَتِهَا وَتَعْدِيلِهَا، عَلَى يَدِ خَلِيفَةِ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ. هَذَا الَّذِي قَدْ يُفْسِدُ أَحْيَانًا، وَقَدْ يَسْفِكُ الدِّمَاءَ أَحْيَانًا، لِيَتِمَّ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الشَّرِّ الْجُزْئِيِّ الظَّاهِرِ خَيْرٌ أَكْبَرُ وَأَشْمَلُ. خَيْرُ النُّمُوِّ الدَّائِمُ، وَالرُّقِيُّ الدَّائِمُ. خَيْرُ الْحَرَكَةِ الْهَادِمَةِ الْبَانِيَةِ. خَيْرُ الْمُحَاوَلَةِ الَّتِي لَا تَكُفُّ، وَالتَّطَلُّعُ الَّذِي لَا يَقِفُ، وَالتَّغْيِيرُ وَالتَّطْوِيرُ فِي هَذَا الْمُلْكِ الْكَبِيرِ.
عِنْدَئِذٍ جَاءَهُمُ الْقَرَارُ مِنَ الْعَلِيمِ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَالْخَبِيرِ بِمَصَائِرِ الْأُمُورِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=31وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ، فَقَالَ: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=32قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=33قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ..
هَا نَحْنُ أُولَاءِ - بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ فِي وَمْضَاتِ الِاسْتِشْرَافِ - نَشْهَدُ مَا شَهِدَهُ الْمَلَائِكَةُ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى.. هَا نَحْنُ أُولَاءِ نَشْهَدُ طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ السِّرِّ الْإِلَهِيِّ الْعَظِيمِ الَّذِي أَوْدَعَهُ اللَّهُ هَذَا الْكَائِنَ الْبَشَرِيَّ ، وَهُوَ يُسَلِّمُهُ مَقَالِيدَ الْخِلَافَةِ. سِرُّ الْقُدْرَةِ عَلَى الرَّمْزِ بِالْأَسْمَاءِ لِلْمُسَمَّيَاتِ. سِرُّ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْمِيَةِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَشْيَاءِ بِأَسْمَاءٍ يَجْعَلُهَا - وَهِيَ أَلْفَاظٌ مَنْطُوقَةٌ - رُمُوزًا لِتِلْكَ الْأَشْخَاصِ وَالْأَشْيَاءِ الْمَحْسُوسَةِ. وَهِيَ قُدْرَةٌ ذَاتُ قِيمَةٍ كُبْرَى فِي حَيَاةِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْأَرْضِ. نُدْرِكُ قِيمَتَهَا حِينَ نَتَصَوَّرُ الصُّعُوبَةَ الْكُبْرَى، لَوْ لَمْ يُوهَبِ الْإِنْسَانُ الْقُدْرَةَ عَلَى الرَّمْزِ بِالْأَسْمَاءِ لِلْمُسَمَّيَاتِ، وَالْمَشَقَّةُ فِي التَّفَاهُمِ وَالتَّعَامُلِ، حِينَ يَحْتَاجُ كُلُّ فَرْدٍ لِكَيْ يَتَفَاهَمَ مَعَ الْآخَرِينَ عَلَى شَيْءٍ أَنْ يَسْتَحْضِرَ هَذَا الشَّيْءَ بِذَاتِهِ أَمَامَهُمْ لِيَتَفَاهَمُوا بِشَأْنِهِ.. الشَّأْنُ شَأْنُ نَخْلَةٍ فَلَا سَبِيلَ إِلَى التَّفَاهُمِ عَلَيْهِ إِلَّا بِاسْتِحْضَارِ جِسْمِ النَّخْلَةِ! الشَّأْنُ شَأْنُ جَبَلٍ. فَلَا سَبِيلَ إِلَى التَّفَاهُمِ عَلَيْهِ إِلَّا بِالذَّهَابِ إِلَى الْجَبَلِ! الشَّأْنُ شَأْنُ فَرْدٍ مِنَ النَّاسِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى التَّفَاهُمِ عَلَيْهِ إِلَّا بِتَحْضِيرِ هَذَا الْفَرْدِ مِنَ النَّاسِ ... إِنَّهَا مَشَقَّةٌ هَائِلَةٌ لَا تُتَصَوَّرُ مَعَهَا حَيَاةٌ! وَإِنَّ الْحَيَاةَ مَا كَانَتْ لِتَمْضِيَ فِي طَرِيقِهَا لَوْ لَمْ يُودِعِ اللَّهُ هَذَا الْكَائِنَ الْقُدْرَةَ عَلَى الرَّمْزِ بِالْأَسْمَاءِ لِلْمُسَمَّيَاتِ.
فَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَلَا حَاجَةَ لَهُمْ بِهَذِهِ الْخَاصِّيَّةِ، لِأَنَّهَا لَا ضَرُورَةَ لَهَا فِي وَظِيفَتِهِمْ. وَمِنْ ثَمَّ لَمْ تُوهَبْ لَهُمْ. فَلَمَّا عَلَّمَ اللَّهُ
آدَمَ هَذَا السِّرَّ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ مَا عَرَضَ لَمْ يَعْرِفُوا الْأَسْمَاءَ. لَمْ يَعْرِفُوا كَيْفَ يَضَعُونَ الرُّمُوزَ اللَّفْظِيَّةَ لِلْأَشْيَاءِ وَالشُّخُوصِ.. وَجَهَرُوا أَمَامَ هَذَا الْعَجْزِ بِتَسْبِيحِ رَبِّهِمْ، وَالِاعْتِرَافِ بِعَجْزِهِمْ، وَالْإِقْرَارِ بِحُدُودِ عِلْمِهِمْ، وَهُوَ مَا عَلَّمَهُمْ.. وَعَرَّفَ
آدَمَ .. ثُمَّ كَانَ هَذَا التَّعْقِيبُ الَّذِي يَرُدُّهُمُ إِلَى إِدْرَاكِ حِكْمَةِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=33قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=34وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ: اسْجُدُوا لآدَمَ. فَسَجَدُوا ..
إِنَّهُ التَّكْرِيمُ فِي أَعْلَى صُوَرِهِ، لِهَذَا الْمَخْلُوقِ الَّذِي يُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ، وَلَكِنَّهُ وُهِبَ مِنَ الْأَسْرَارِ مَا يَرْفَعُهُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ. لَقَدْ وُهِبَ سِرَّ الْمَعْرِفَةِ، كَمَا وُهِبَ سِرَّ الْإِرَادَةِ الْمُسْتَقِلَّةِ الَّتِي تَخْتَارُ الطَّرِيقَ.. إِنَّ ازْدِوَاجَ طَبِيعَتِهِ وَقُدْرَتِهُ عَلَى تَحْكِيمِ إِرَادَتِهِ فِي شَقِّ طَرِيقِهِ، وَاضْطِلَاعِهِ بِأَمَانَةِ الْهِدَايَةِ إِلَى اللَّهِ بِمُحَاوَلَتِهِ الْخَاصَّةِ..
إِنَّ هَذَا كُلَّهُ بَعْضُ أَسْرَارِ تَكْرِيمِهِ.
وَلَقَدْ سَجَدَ الْمَلَائِكَةُ امْتِثَالًا لِلْأَمْرِ الْعُلْوِيِّ الْجَلِيلِ..
[ ص: 58 ] nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=34إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ..
وَهُنَا تَتَبَدَّى خَلِيقَةُ الشَّرِّ مُجَسَّمَةً: عِصْيَانُ الْجَلِيلِ سُبْحَانَهُ! وَالِاسْتِكْبَارُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْفَضْلِ لِأَهْلِهِ. وَالْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ. وَالِاسْتِغْلَاقُ عَنِ الْفَهْمِ.
وَيُوحِي السِّيَاقُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=31771_31766إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ، إِنَّمَا كَانَ مَعَهُمْ. فَلَوْ كَانَ مِنْهُمْ مَا عَصَى. وَصِفَتُهُمُ الْأُولَى أَنَّهُمْ
nindex.php?page=tafseer&surano=66&ayano=6لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ .. وَالِاسْتِثْنَاءُ هُنَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِمْ، فَكَوْنُهُ مَعَهُمْ يُجِيزُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ، كَمَا تَقُولُ: جَاءَ بَنُو فُلَانٍ إِلَّا أَحْمَدُ. وَلَيْسَ مِنْهُمْ إِنَّمَا هُوَ عَشِيرُهُمْ وَإِبْلِيسُ مِنَ الْجِنِّ بِنَصِّ الْقُرْآنِ ، وَاللَّهُ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ. وَهَذَا يَقْطَعُ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
وَالْآنَ. لَقَدِ انْكَشَفَ مَيْدَانُ الْمَعْرَكَةِ الْخَالِدَةِ. الْمَعْرَكَةُ بَيْنَ خَلِيقَةِ الشَّرِّ فِي إِبْلِيسَ، وَخَلِيفَةِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ.
الْمَعْرَكَةُ الْخَالِدَةُ فِي ضَمِيرِ الْإِنْسَانِ. الْمَعْرَكَةُ الَّتِي يَنْتَصِرُ فِيهَا الْخَيْرُ بِمِقْدَارِ مَا يَسْتَعْصِمُ الْإِنْسَانُ لِشَهْوَتِهِ. وَيَبْعُدُ عَنْ رَبِّهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=35وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ..
لَقَدْ أُبِيحَتْ لَهُمَا كُلُّ ثِمَارِ الْجَنَّةِ.. إِلَّا شَجَرَةٌ.. شَجَرَةٌ وَاحِدَةٌ، رُبَّمَا كَانَتْ تَرْمُزُ لِلْمَحْظُورِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ فِي حَيَاةِ الْأَرْضِ. فَبِغَيْرِ مَحْظُورٍ لَا تَنْبُتُ الْإِرَادَةُ ، وَلَا يَتَمَيَّزُ الْإِنْسَانُ الْمُرِيدُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمَسُوقِ، وَلَا يَمْتَحِنُ صَبْرَ الْإِنْسَانِ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَالتَّقَيُّدِ بِالشَّرْطِ. فَالْإِرَادَةُ هِيَ مَفْرِقُ الطَّرِيقِ. وَالَّذِينَ يَسْتَمْتِعُونَ بِلَا إِرَادَةٍ هُمْ مِنْ عَالَمِ الْبَهِيمَةِ، وَلَوْ بَدُوا فِي شَكْلِ الْآدَمِيِّينَ!.
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=36فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا، فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ..
وَيَا لِلتَّعْبِيرِ الْمُصَوِّرِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=36فَأَزَلَّهُمَا .. إِنَّهُ لَفْظٌ يَرْسُمُ صُورَةَ الْحَرَكَةِ الَّتِي يُعَبِّرُ عَنْهَا. وَإِنَّكَ لَتَكَادُ تَلْمَحُ الشَّيْطَانَ وَهُوَ يُزَحْزِحُهُمَا عَنِ الْجَنَّةِ، وَيَدْفَعُ بِأَقْدَامِهِمَا فَتَزِلَّ وَتَهْوَى!.
عِنْدَئِذٍ تَمَّتِ التَّجْرِبَةُ: نَسِيَ
آدَمُ عُهَدَهُ، وَضَعُفَ أَمَامَ الْغَوَايَةِ. وَعِنْدَئِذٍ حَقَّتْ كَلِمَةُ اللَّهِ، وَصَرَحَ قَضَاؤُهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=36وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ..
وَكَانَ هَذَا إِيذَانًا بِانْطِلَاقِ الْمَعْرَكَةِ فِي مَجَالِهَا الْمُقَدَّرِ لَهَا. بَيْنَ الشَّيْطَانِ وَالْإِنْسَانِ. إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ.
وَنَهَضَ
آدَمُ مِنْ عَثْرَتِهِ، بِمَا رُكِّبَ فِي فِطْرَتِهِ، وَأَدْرَكَتْهُ رَحْمَةُ رَبِّهِ الَّتِي تُدْرِكُهُ دَائِمًا عِنْدَمَا يَثُوبُ إِلَيْهَا، وَيَلُوذُ بِهَا.
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=37فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ..
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ اللَّهِ الْأَخِيرَةُ، وَعَهْدُهُ الدَّائِمُ مَعَ
آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ. عَهْدُ الِاسْتِخْلَافِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ، وَشَرْطُ الْفَلَاحِ فِيهَا أَوِ الْبَوَارِ.
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=38قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=39وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ..
وَانْتَقَلَتِ الْمَعْرَكَةُ الْخَالِدَةُ إِلَى مَيْدَانِهَا الْأَصِيلِ، وَانْطَلَقَتْ مِنْ عِقَالِهَا مَا تَهْدَأُ لَحْظَةً وَمَا تَفْتُرُ. وَعَرَفَ الْإِنْسَانُ فِي فَجْرِ الْبَشَرِيَّةِ كَيْفَ يَنْتَصِرُ إِذَا شَاءَ الِانْتِصَارَ، وَكَيْفَ يَنْكَسِرُ إِذَا اخْتَارَ لِنَفْسِهِ الْخَسَارَ ...
[ ص: 59 ] وَبَعْدُ فَلَا بُدَّ مِنْ عَوْدَةٍ إِلَى مَطَالِعِ الْقِصَّةِ. قِصَّةِ الْبَشَرِيَّةِ الْأُولَى.
لَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً .. وَإِذَنْ
فَآدَمُ مَخْلُوقٌ لِهَذِهِ الْأَرْضِ مُنْذُ اللَّحْظَةِ الْأُولَى. فَفِيمَ إِذَنْ كَانَتْ تِلْكَ الشَّجَرَةُ الْمُحَرَّمَةُ؟ وَفِيمَ إِذَنْ كَانَ بَلَاءُ
آدَمَ ؟ وَفِيمَ إِذَنْ كَانَ الْهُبُوطُ إِلَى الْأَرْضِ، وَهُوَ مَخْلُوقٌ لِهَذِهِ الْأَرْضِ مُنْذُ اللَّحْظَةِ الْأُولَى؟
لَعَلَّنِي أَلْمَحُ أَنَّ هَذِهِ التَّجْرِبَةَ كَانَتْ تَرْبِيَةً لِهَذَا الْخَلِيفَةِ وَإِعْدَادًا. كَانَتْ إِيقَاظًا لِلْقُوَى الْمَذْخُورَةِ فِي كِيَانِهِ. كَانَتْ تَدْرِيبًا لَهُ عَلَى تَلَقِّي الْغَوَايَةَ، وَتَذَوُّقِ الْعَاقِبَةِ، وَتَجَرُّعِ النَّدَامَةِ، وَمَعْرِفَةِ الْعَدُوِّ، وَالِالْتِجَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْمَلَاذِ الْأَمِينِ.
إِنَّ قِصَّةَ الشَّجَرَةِ الْمُحَرَّمَةِ، وَوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ بِاللَّذَّةِ، وَنِسْيَانِ الْعَهْدِ بِالْمَعْصِيَةِ، وَالصَّحْوَةِ مِنْ بَعْدِ السَّكْرَةِ، وَالنَّدَمِ وَطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ.. إِنَّهَا هِيَ هِيَ تَجْرِبَةُ الْبَشَرِيَّةِ الْمُتَجَدِّدَةِ الْمَكْرُورَةِ!.
لَقَدِ اقْتَضَتْ رَحْمَةُ اللَّهِ بِهَذَا الْمَخْلُوقِ أَنْ يَهْبِطَ إِلَى مَقَرِّ خِلَافَتِهِ ، مُزَوَّدًا بِهَذِهِ التَّجْرِبَةِ الَّتِي سَيَتَعَرَّضُ لِمِثْلِهَا طَوِيلًا، اسْتِعْدَادًا لِلْمَعْرَكَةِ الدَّائِبَةِ وَمَوْعِظَةً وَتَحْذِيرًا..
وَبَعْدَ.. مَرَّةٍ أُخْرَى.. فَأَيْنَ كَانَ هَذَا الَّذِي كَانَ؟ وَمَا الْجَنَّةُ الَّتِي عَاشَ فِيهَا
آدَمُ وَزَوْجُهُ حِينًا مِنَ الزَّمَانِ؟
وَمَنْ هُمُ الْمَلَائِكَةُ؟ وَمَنْ هُوَ إِبْلِيسُ؟ .. كَيْفَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ؟ وَكَيْفَ أَجَابُوهُ؟ ..
هَذَا وَأَمْثَالُهُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ غَيْبٌ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ وَعِلْمٍ بِحِكْمَتِهِ أَنْ لَا جَدْوَى لِلْبَشَرِ فِي مَعْرِفَةِ كُنْهِهِ وَطَبِيعَتِهِ، فَلَمْ يَهَبْ لَهُمُ الْقُدْرَةَ عَلَى إِدْرَاكِهِ وَالْإِحَاطَةِ بِهِ، بِالْأَدَاةِ الَّتِي وَهَبَهُمْ إِيَّاهَا لِخِلَافَةِ الْأَرْضِ، وَلَيْسَ مِنْ مُسْتَلْزَمَاتِ الْخِلَافَةِ أَنْ نَطَّلِعَ عَلَى هَذَا الْغَيْبِ. وَبِقَدْرِ مَا سَخَّرَ اللَّهُ لِلْإِنْسَانِ مِنَ النَّوَامِيسِ الْكَوْنِيَّةِ وَعَرَّفَهُ بِأَسْرَارِهَا، بِقَدْرِ مَا حَجَبَ عَنْهُ أَسْرَارَ الْغَيْبِ، فِيمَا لَا جَدْوَى لَهُ فِي مَعْرِفَتِهِ. وَمَا يَزَالُ الْإِنْسَانُ مَثَلًا عَلَى الرَّغْمِ مِنْ كُلِّ مَا فَتَحَ لَهُ مِنَ الْأَسْرَارِ الْكَوْنِيَّةِ يَجْهَلُ مَا وَرَاءَ اللَّحْظَةِ الْحَاضِرَةِ جَهْلًا مُطْلَقًا، وَلَا يَمْلِكُ بِأَيِّ أَدَاةٍ مِنْ أَدَوَاتِ الْمَعْرِفَةِ الْمُتَاحَةِ لَهُ أَنْ يَعْرِفَ مَاذَا سَيَحْدُثُ لَهُ بَعْدَ لَحْظَةٍ، وَهَلِ النَّفَسُ الَّذِي خَرَجَ مِنْ فَمِهِ عَائِدٌ أَمْ هُوَ آخِرُ أَنْفَاسِهِ؟ وَهَذَا مَثَلٌ مِنَ الْغَيْبِ الْمَحْجُوبِ عَنِ الْبَشَرِ، لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي مُقْتَضَيَاتِ الْخِلَافَةِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ مُعَوِّقًا لَهَا لَوْ كَشَفَ لِلْإِنْسَانِ عَنْهُ! وَهُنَالِكَ أَلْوَانٌ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْأَسْرَارِ الْمَحْجُوبَةِ عَنِ الْإِنْسَانِ، فِي طَيِّ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ.
وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَعُدْ لِلْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ أَنْ يَخُوضَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْوَسِيلَةَ لِلْوُصُولِ إِلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ. وَكُلُّ جُهْدٍ يُبْذَلُ فِي هَذِهِ الْمُحَاوَلَةِ هُوَ جُهْدٌ ضَائِعٌ، ذَاهِبٌ سُدًى، بِلَا ثَمَرَةٍ وَلَا جَدْوَى.
وَإِذَا كَانَ
nindex.php?page=treesubj&link=28783_29692الْعَقْلُ الْبَشَرِيُّ لَمْ يُوهَبَ الْوَسِيلَةَ لِلِاطِّلَاعِ عَلَى هَذَا الْغَيْبِ الْمَحْجُوبِ; فَلَيْسَ سَبِيلَهُ إِذَنْ أَنْ يَتَبَجَّحَ فَيُنْكِرَ.. فَالْإِنْكَارُ حُكْمٌ يَحْتَاجُ إِلَى الْمَعْرِفَةِ. وَالْمَعْرِفَةُ هُنَا لَيْسَتْ مِنْ طَبِيعَةِ الْعَقْلِ، وَلَيْسَتْ فِي طَوْقِ وَسَائِلِهِ، وَلَا هِيَ ضَرُورِيَّةٌ لَهُ فِي وَظِيفَتِهِ!.
إِنَّ الِاسْتِسْلَامَ لِلْوَهْمِ وَالْخُرَافَةِ شَدِيدُ الضَّرَرِ بَالِغُ الْخُطُورَةِ. وَلَكِنَّ أَضَرَّ مِنْهُ وَأَخْطَرَ، التَّنَكُّرُ لِلْمَجْهُولِ كُلِّهِ وَإِنْكَارِهِ، وَاسْتِبْعَادِ الْغَيْبِ لِمُجَرَّدِ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِهِ .. إِنَّهَا تَكُونُ نَكْسَةً إِلَى عَالَمِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَعِيشُ فِي الْمَحْسُوسِ وَحْدَهُ، وَلَا يَنْفُذُ مِنْ أَسْوَارِهِ إِلَى الْوُجُودِ الطَّلِيقِ.
فَلْنَدْعُ هَذَا الْغَيْبَ إِذَنْ لِصَاحِبِهِ، وَحَسْبُنَا مَا يَقُصُّ لَنَا عَنْهُ، بِالْقَدْرِ الَّذِي يَصْلُحُ لَنَا فِي حَيَاتِنَا، وَيُصْلِحُ سَرَائِرَنَا وَمَعَاشَنَا. وَلِنَأْخُذْ مِنَ الْقِصَّةِ مَا تُشِيرُ إِلَيْهِ مِنْ حَقَائِقَ كَوْنِيَّةٍ وَإِنْسَانِيَّةٍ، وَمِنْ تَصَوُّرٍ لِلْوُجُودِ وَارْتِبَاطَاتِهِ، وَمِنْ إِيحَاءٍ بِطَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ وَقِيَمِهِ وَمَوَازِينِهِ.. فَذَلِكَ وَحْدَهُ أَنْفَعُ لِلْبَشَرِيَّةِ وَأَهْدَى.
[ ص: 60 ] وَفِي اخْتِصَارٍ يُنَاسِبُ ظِلَالَ الْقُرْآنِ سَنُحَاوِلُ أَنْ نَمُرَّ بِهَذِهِ الْإِيحَاءَاتِ وَالتَّصَوُّرَاتِ وَالْحَقَائِقِ مُرُورًا مُجْمَلًا سَرِيعًا.
إِنَّ أَبْرَزَ إِيحَاءَاتِ قِصَّةِ
آدَمَ - كَمَا وَرَدَتْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ - هُوَ الْقِيمَةُ الْكُبْرَى الَّتِي يُعْطِيهَا التَّصَوُّرُ الْإِسْلَامِيُّ لِلْإِنْسَانِ وَلِدَوْرِهِ فِي الْأَرْضِ ، وَلِمَكَانِهِ فِي نِظَامِ الْوُجُودِ، وَلِلْقِيَمِ الَّتِي يُوزَنُ بِهَا. ثُمَّ لِحَقِيقَةِ ارْتِبَاطِهِ بِعَهْدِ اللَّهِ، وَحَقِيقَةِ هَذَا الْعَهْدِ الَّذِي قَامَتْ خِلَافَتُهُ عَلَى أَسَاسِهِ..
وَتَتَبَدَّى تِلْكَ الْقِيمَةُ الْكُبْرَى الَّتِي يُعْطِيهَا التَّصَوُّرُ الْإِسْلَامِيُّ لِلْإِنْسَانِ فِي الْإِعْلَانِ الْعُلْوِيِّ الْجَلِيلِ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى الْكَرِيمِ، أَنَّهُ مَخْلُوقٌ لِيَكُونَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ; كَمَا تَتَبَدَّى فِي أَمْرِ الْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ لَهُ. وَفِي طَرْدِ إِبْلِيسَ الَّذِي اسْتَكْبَرَ وَأَبَى، وَفِي رِعَايَةِ اللَّهِ لَهُ أَوَّلًا وَأَخِيرًا..
وَمِنْ هَذِهِ النَّظْرَةِ لِلْإِنْسَانِ تَنْبَثِقُ جُمْلَةُ اعْتِبَارَاتٍ ذَاتِ قِيمَةٍ كَبِيرَةٍ فِي عَالَمِ التَّصَوُّرِ وَفِي عَالَمِ الْوَاقِعِ عَلَى السَّوَاءِ.
وَأَوَّلُ اعْتِبَارٍ مِنْ هَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ هُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ سَيِّدُ هَذِهِ الْأَرْضِ، وَمِنْ أَجْلِهِ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فِيهَا - كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ نَصًّا - فَهُوَ إِذَنْ أَعَزُّ وَأَكْرَمُ وَأَغْلَى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَادِّيٍّ، وَمَنْ كُلِّ قِيمَةٍ مَادِّيَّةٍ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ جَمِيعًا. وَلَا يَجُوزُ إِذَنْ أَنْ يَسْتَعْبِدَ أَوْ يَسْتَذِلَّ لِقَاءَ تَوْفِيرِ قِيمَةٍ مَادِّيَّةٍ أَوْ شَيْءٍ مَادِّيٍّ.. لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَى أَيِّ مُقَوِّمٍ مِنْ مُقَوِّمَاتِ إِنْسَانِيَّتِهِ الْكَرِيمَةِ، وَلَا أَنْ تُهْدِرَ أَيَّةَ قِيمَةٍ مِنْ قِيَمِهِ لِقَاءَ تَحْقِيقِ أَيِّ كَسْبٍ مَادِّيٍّ، أَوْ إِنْتَاجِ أَيِّ شَيْءٍ مَادِّيٍّ، أَوْ تَكْثِيرِ أَيِّ عُنْصُرٍ مَادِّيٍّ.. فَهَذِهِ الْمَادِّيَّاتُ كُلُّهَا مَخْلُوقَةٌ - أَوْ مَصْنُوعَةٌ - مِنْ أَجْلِهِ. مِنْ أَجْلِ تَحْقِيقِ إِنْسَانِيَّتِهِ. مِنْ أَجْلِ تَقْرِيرِ وَجُودِهِ الْإِنْسَانِيِّ. فَلَا يَجُوزُ إِذَنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهَا هُوَ سَلْبُ قِيمَةٍ مِنْ قِيَمِهِ الْإِنْسَانِيَّةِ، أَوْ نَقْصِ مُقَوِّمٍ مِنْ مُقَوِّمَاتِ كَرَامَتِهِ.
وَالِاعْتِبَارُ الثَّانِي هُوَ أَنْ دَوْرُ الْإِنْسَانِ فِي الْأَرْضِ هُوَ الدَّوْرُ الْأَوَّلُ. فَهُوَ الَّذِي يُغَيِّرُ وَيُبَدِّلُ فِي أَشْكَالِهَا وَفِي ارْتِبَاطَاتِهَا; وَهُوَ الَّذِي يَقُودُ اتِّجَاهَاتِهَا وَرَحْلَاتِهَا. وَلَيْسَتْ وَسَائِلُ الْإِنْتَاجِ وَلَا تَوْزِيعُ الْإِنْتَاجِ، هِيَ الَّتِي تَقُودُ الْإِنْسَانَ وَرَاءَهَا ذَلِيلًا سَلْبِيًّا كَمَا تُصَوِّرُهُ الْمَذَاهِبُ الْمَادِّيَّةُ الَّتِي تُحَقِّرُ مِنْ دَوْرِ الْإِنْسَانِ وَتَصْغُرُ بِقَدْرِ مَا تَعْظُمُ فِي دَوْرِ الْآلَةِ وَتَكْبُرُ!.
إِنَّ النَّظْرَةَ الْقُرْآنِيَّةَ تَجْعَلُ هَذَا الْإِنْسَانَ بِخِلَافَتِهِ فِي الْأَرْضِ، عَامِلًا مُهِمًّا فِي نِظَامِ الْكَوْنِ، مَلْحُوظًا فِي هَذَا النِّظَامِ. فَخِلَافَتُهُ فِي الْأَرْضِ تَتَعَلَّقُ بِارْتِبَاطَاتٍ شَتَّى مَعَ السَّمَاوَاتِ وَمَعَ الرِّيَاحِ وَمَعَ الْأَمْطَارِ، وَمَعَ الشُّمُوسِ وَالْكَوَاكِبِ.. وَكُلُّهَا مَلْحُوظٌ فِي تَصْمِيمِهَا وَهَنْدَسَتِهَا إِمْكَانِ قِيَامِ الْحَيَاةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَإِمْكَانِ قِيَامِ هَذَا الْإِنْسَانِ بِالْخِلَافَةِ.. فَأَيْنَ هَذَا الْمَكَانُ الْمَلْحُوظُ مِنْ ذَلِكَ الدَّوْرِ الذَّلِيلِ الصَّغِيرِ الَّذِي تُخَصِّصُهُ لَهُ الْمَذَاهِبُ الْمَادِّيَّةُ، وَلَا تَسْمَحُ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّاهُ؟!.
وَمَا مِنْ شَكٍّ أَنَّ كُلًّا مِنْ نَظْرَةِ الْإِسْلَامِ هَذِهِ وَنَظْرَةِ الْمَادِّيَّةِ لِلْإِنْسَانِ تُؤَثِّرُ فِي طَبِيعَةِ النِّظَامِ الَّذِي تُقِيمُهُ هَذِهِ وَتِلْكَ لِلْإِنْسَانِ; وَطَبِيعَةُ احْتِرَامِ الْمُقَوِّمَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ أَوْ إِهْدَارِهَا; وَطَبِيعَةُ تَكْرِيمِ هَذَا الْإِنْسَانِ أَوْ تَحْقِيرِهِ..
وَلَيْسَ مَا نَرَاهُ فِي الْعَالَمِ الْمَادِّيِّ مِنْ إِهْدَارِ كُلِّ حُرِّيَّاتِ الْإِنْسَانِ وَحُرُمَاتِهِ وَمُقَوِّمَاتِهِ فِي سَبِيلِ تَوْفِيرِ الْإِنْتَاجِ الْمَادِّيِّ وَتَكْثِيرِهِ، إِلَّا أَثَرًا مِنْ آثَارِ تِلْكَ النَّظْرَةِ إِلَى حَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ، وَحَقِيقَةِ دَوْرِهِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ!.
كَذَلِكَ يَنْشَأُ عَنْ نَظْرَةِ الْإِسْلَامِ الرَّفِيعَةِ إِلَى حَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ وَوَظِيفَتُهُ إِعْلَاءُ الْقِيَمِ الْأَدَبِيَّةِ فِي وَزْنِهِ وَتَقْدِيرِهِ، وَإِعْلَاءُ قِيمَةِ الْفَضَائِلِ الْخُلُقِيَّةِ، وَتَكْبِيرُ قِيَمِ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ وَالْإِخْلَاصِ فِي حَيَاتِهِ. فَهَذِهِ هِيَ الْقِيَمُ الَّتِي يَقُومُ عَلَيْهَا عَهْدُ اسْتِخْلَافِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=38فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ... وَهَذِهِ الْقِيَمُ أَعْلَى وَأَكْرَمُ مِنْ جَمِيعِ الْقِيَمِ الْمَادِّيَّةِ - هَذَا مَعَ أَنَّ مِنْ مَفْهُومِ الْخِلَافَةِ تَحْقِيقَ هَذِهِ الْقِيَمِ الْمَادِّيَّةِ، وَلَكِنْ بِحَيْثُ لَا
[ ص: 61 ] تُصْبِحُ هِيَ الْأَصْلَ وَلَا تَطْغَى عَلَى تِلْكَ الْقِيَمِ الْعُلْيَا - وَلِهَذَا وَزْنُهُ فِي تَوْجِيهِ الْقَلْبِ الْبَشَرِيِّ إِلَى الطَّهَارَةِ وَالِارْتِفَاعِ وَالنَّظَافَةِ فِي حَيَاتِهِ. بِخِلَافِ مَا تُوحِيهِ الْمَذَاهِبُ الْمَادِّيَّةُ مِنَ اسْتِهْزَاءٍ بِكُلِّ الْقِيَمِ الرُّوحِيَّةِ، وَإِهْدَارٍ لِكُلِّ الْقِيَمِ الْأَدَبِيَّةِ، فِي سَبِيلِ الِاهْتِمَامِ الْمُجَرَّدِ بِالْإِنْتَاجِ وَالسِّلَعِ وَمُطَالِبِ الْبُطُونِ كَالْحَيَوَانِ !.
وَفِي التَّصَوُّرِ الْإِسْلَامِيِّ إِعْلَاءٌ مِنْ شَأْنِ الْإِرَادَةِ فِي الْإِنْسَانِ فَهِيَ مَنَاطُ الْعُهَدِ مَعَ اللَّهِ، وَهِيَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ وَالْجَزَاءِ.. إِنَّهُ يَمْلِكُ الِارْتِفَاعَ عَلَى مَقَامِ الْمَلَائِكَةِ بِحِفْظِ عَهِدِهِ مَعَ رَبِّهِ عَنْ طَرِيقِ تَحْكِيمِ إِرَادَتِهِ، وَعَدَمِ الْخُضُوعِ لِشَهَوَاتِهِ، وَالِاسْتِعْلَاءِ عَلَى الْغَوَايَةِ الَّتِي تُوَجَّهَ إِلَيْهِ. بَيْنَمَا يَمْلِكُ أَنْ يُشْقِيَ نَفْسَهُ وَيَهْبِطَ مِنْ عَلْيَائِهِ، بِتَغْلِيبِ الشَّهْوَةِ عَلَى الْإِرَادَةِ، وَالْغَوَايَةِ عَلَى الْهِدَايَةِ، وَنِسْيَانِ الْعَهْدِ الَّذِي يَرْفَعُهُ إِلَى مَوْلَاهُ. وَفِي هَذَا مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ التَّكْرِيمِ لَا شَكَّ فِيهِ، يُضَافُ إِلَى عَنَاصِرِ التَّكْرِيمِ الْأُخْرَى. كَمَا أَنَّ فِيهِ تَذْكِيرًا دَائِمًا بِمَفْرِقِ الطَّرِيقِ بَيْنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَالرِّفْعَةِ وَالْهُبُوطِ، وَمَقَامِ الْإِنْسَانِ الْمُرِيدِ وَدَرْكِ الْحَيَوَانِ الْمَسُوقِ!.
وَفِي أَحْدَاثِ الْمَعْرَكَةِ الَّتِي تُصَوِّرُهَا الْقِصَّةُ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالشَّيْطَانِ مُذَكِّرٌ دَائِمٌ بِطَبِيعَةِ الْمَعْرَكَةِ. إِنَّهَا بَيْنَ عَهْدِ اللَّهِ وَغَوَايَةِ الشَّيْطَانِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ. بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ.. وَالْإِنْسَانُ هُوَ نَفْسُهُ مَيْدَانُ الْمَعْرَكَةِ. وَهُوَ نَفْسُهُ الْكَاسِبُ أَوِ الْخَاسِرُ فِيهَا. وَفِي هَذَا إِيحَاءٌ دَائِمٌ لَهُ بِالْيَقَظَةِ; وَتَوْجِيهٌ دَائِمٌ لَهُ بِأَنَّهُ جُنْدِيٌّ فِي مَيْدَانِ; وَأَنَّهُ هُوَ صَاحِبُ الْغَنِيمَةِ أَوِ السَّلْبِ فِي هَذَا الْمَيْدَانِ!.
وَأَخِيرًا تَجِيءُ فِكْرَةُ الْإِسْلَامِ عَنِ الْخَطِيئَةِ وَالتَّوْبَةِ .. إِنَّ الْخَطِيئَةَ فَرْدِيَّةٌ وَالتَّوْبَةَ فَرْدِيَّةٌ. فِي تَصَوُّرٍ وَاضِحٍ بَسِيطٍ لَا تَعْقِيدَ فِيهِ وَلَا غُمُوضَ.. لَيْسَتْ هُنَالِكَ خَطِيئَةٌ مَفْرُوضَةٌ عَلَى الْإِنْسَانِ قَبْلَ مَوْلِدِهِ - كَمَا تَقُولُ نَظَرِيَّةُ الْكَنِيسَةِ - وَلَيْسَ هُنَالِكَ تَكْفِيرٌ لَاهُوتِيٌّ، كَالَّذِي تَقُولُ الْكَنِيسَةُ إِنَّ
عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - "ابْنُ اللَّهِ بِزَعْمِهِمْ" قَامَ بِهِ بِصَلْبِهِ، تَخْلِيصًا لِبَنِي
آدَمَ مِنْ خَطِيئَةِ
آدَمَ ! .. كُلًّا! خَطِيئَةُ
آدَمَ كَانَتْ خَطِيئَةَ الشَّخْصِيَّةِ، وَالْخَلَاصُ مِنْهَا كَانَ بِالتَّوْبَةِ الْمُبَاشِرَةِ فِي يُسْرٍ وَبَسَاطَةٍ. وَخَطِيئَةُ كُلِّ وَلَدٍ مِنْ أَوْلَادِهِ خَطِيئَةٌ كَذَلِكَ شَخْصِيَّةٌ، وَالطَّرِيقُ مَفْتُوحٌ لِلتَّوْبَةِ فِي يُسْرٍ وَبَسَاطَةٍ .. تَصَوُّرٌ مُرِيحٌ صَرِيحٌ. يَحْمِلُ كُلَّ إِنْسَانِ وِزْرَهُ، وَيُوحِي إِلَى كُلِّ إِنْسَانٍ بِالْجُهْدِ وَالْمُحَاوَلَةِ وَعَدَمِ الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ..
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=12إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ..
هَذَا طَرَفٌ مِنْ إِيحَاءَاتِ قِصَّةِ
آدَمَ - فِي هَذَا الْمَوْضِعِ - نَكْتَفِي بِهِ فِي ظِلَالِ الْقُرْآنِ. وَهُوَ وَحْدُهُ ثَرْوَةٌ مِنَ الْحَقَائِقِ وَالتَّصَوُّرَاتِ الْقَوِيمَةِ; وَثَرْوَةٌ مِنَ الْإِيحَاءَاتِ وَالتَّوْجِيهَاتِ الْكَرِيمَةِ; وَثَرْوَةٌ مِنَ الْأُسُسِ الَّتِي يَقُومُ عَلَيْهَا تَصَوُّرٌ اجْتِمَاعِيٌّ وَأَوْضَاعٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ، يَحْكُمُهَا الْخُلُقُ وَالْخَيْرُ وَالْفَضِيلَةُ. وَمِنْ هَذَا الطَّرَفِ نَسْتَطِيعُ أَنْ نُدْرِكَ أَهَمِّيَّةَ الْقَصَصِ الْقُرْآنِيِّ فِي تَرْكِيزِ قَوَاعِدِ التَّصَوُّرِ الْإِسْلَامِيِّ ; وَإِيضَاحِ الْقِيَمِ الَّتِي يَرْتَكِزُ عَلَيْهَا. وَهِيَ الْقِيَمُ الَّتِي تَلِيقُ بِعَالَمٍ صَادِرٍ عَنِ اللَّهِ، مُتَّجِهٌ إِلَى اللَّهِ، صَائِرٌ إِلَى اللَّهِ فِي نِهَايَةِ الْمَطَافِ.. عَقْدُ الِاسْتِخْلَافِ فِيهِ قَائِمٌ عَلَى تَلَقِّي الْهُدَى مِنَ اللَّهِ، وَالتَّقَيُّدُ بِمَنْهَجِهِ فِي الْحَيَاةِ. وَمَفْرِقُ الطَّرِيقِ فِيهِ أَنْ يَسْمَعَ الْإِنْسَانُ وَيُطِيعَ لِمَا يَتَلَقَّاهُ مِنَ اللَّهِ، أَوْ أَنْ يَسْمَعَ الْإِنْسَانُ وَيُطِيعَ لِمَا يُمْلِيهِ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ. وَلَيْسَ هُنَاكَ طَرِيقٌ ثَالِثٌ.. إِمَّا اللَّهُ وَإِمَّا الشَّيْطَانُ. إِمَّا الْهُدَى وَإِمَّا الضَّلَالٌ. إِمَّا الْحَقُّ وَإِمَّا الْبَاطِلُ. إِمَّا الْفَلَّاحُ وَإِمَّا الْخُسْرَانُ.. وَهَذِهِ الْحَقِيقَةُ هِيَ الَّتِي يُعَبِّرُ عَنْهَا الْقُرْآنُ كُلُّهُ، بِوَصْفِهَا الْحَقِيقَةَ الْأُولَى، الَّتِي تَقُومُ عَلَيْهَا سَائِرُ التَّصَوُّرَاتِ، وَسَائِرُ الْأَوْضَاعِ فِي عَالَمِ الْإِنْسَانِ..