وبعد أن يحكي القرآن هذا عنهم; يقرر المنهج اللائق بأهل الكتاب ; والأدب الجدير بمن أوتوا نصيبا منه. ويطمعهم - بعد ذلك كله - في الهداية والجزاء الحسن والفضل والخير من الله. لو ثابوا إلى الطريق القويم. وذلك مع بيان حقيقة طبيعتهم. وأنها هكذا كانت وهكذا تكون:
ولو أنهم قالوا: سمعنا وأطعنا، واسمع وانظرنا، لكان خيرا لهم وأقوم، ولكن لعنهم الله بكفرهم، فلا يؤمنون إلا قليلا ..
فهم لا يواجهون الحق بهذه الصراحة وهذه النصاعة وهذه الاستقامة. ولو أنهم واجهوه هكذا بالألفاظ الصريحة التي لا التواء فيها:
سمعنا وأطعنا، واسمع وانظرنا .
لكان هذا خيرا لهم، وأقوم لطبيعتهم وأنفسهم وحالهم. ولكن واقع الأمر أنهم - بسبب كفرهم - مطرودون من هداية الله. فلا يؤمن منهم إلا القليل.
وصدق قول الله.. فلم يدخل في الإسلام - في تاريخه الطويل - إلا القليل من اليهود . ممن قسم الله لهم الخير، وأراد لهم الهدى باجتهادهم للخير وسعيهم للهدى. أما كتلة اليهود ، فقد ظلت طوال أربعة عشر قرنا، حربا على الإسلام والمسلمين. منذ أن جاورهم الإسلام في المدينة إلى اللحظة الحاضرة. العنيد الذي لا يكف، المنوع الأشكال والألوان والفنون، منذ ذلك الحين! وما من كيد كاده أحد للإسلام في تاريخه كله - بما في ذلك كيد الصليبية العالمية والاستعمار بشتى أشكاله - إلا كان من ورائه اليهود . أو كان لليهود فيه نصيب! وكيدهم للإسلام كان هو الكيد الواصب الذي لا ينقطع،
بعد ذلك يتجه الخطاب إلى الذين أوتوا الكتاب - اليهود - دعوة إلى الكتاب المصدق لما بين أيديهم; وتهديدا لهم بالمسخ واللعن المتوقعين من وراء عنادهم وأفاعيلهم. ودمغا لهم بالشرك والانحراف عن التوحيد الخالص، الذي عليه دينهم، والله لا يغفر أن يشرك به.. وفي الوقت ذاته بيان عام لحدود المغفرة الواسعة ; وبشاعة الشرك حتى إنه ليخرج من هذه الحدود:
يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا، مصدقا لما معكم، من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها، أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت.. وكان أمر الله مفعولا إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك [ ص: 677 ] لمن يشاء - ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما
.. إنه نداء لهم بالصفة التي كان من شأنها أن يكونوا أول المستجيبين; وبالسبب الذي كان من شأنه أن يكونوا أول المسلمين:
يا أيها الذين أوتوا الكتاب، آمنوا بما نزلنا، مصدقا لما معكم ..
فهم أوتوا الكتاب، فليس غريبا عليهم هذا الهدى. والله الذي آتاهم الكتاب هو الذي يدعوهم إلى الإيمان بما أنزل مصدقا لما معهم. فليس غريبا عليهم كذلك. وهو مصدق لما معهم..
ولو كان الإيمان بالبينة. أو بالأسباب الظاهرة. لآمنت يهود أول من آمن. ولكن يهود كانت لها مصالح ومطامح. وكانت لها أحقاد وعناد. وكانت هي بطبعها منحرفة صلبة الرقبة.. كما تعبر عنهم التوراة بأنهم:
"شعب صلب الرقبة!" . ومن ثم لم تؤمن. ومن ثم يجيئها التهديد العنيف القاسي:
من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها. أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت. وكان أمر الله مفعولا ..
وطمس الوجوه: إزالة معالمها المميزة لآدميتها وردها على أدبارها، دفعها لأن تمشي القهقرى.. وقد يكون المقصود هو التهديد بمعناه المادي; الذي يفقدهم آدميتهم ويردهم يمشون على أدبارهم; ويكون كذلك اللعن الذي أصاب أصحاب السبت (وهم الذين احتالوا على صيد السمك يوم السبت، وهو محرم عليهم في شريعتهم) هو مسخهم بالفعل قردة وخنازير.. كما قد يكون المقصود طمس معالم الهدى والبصيرة في نفوسهم، وردهم إلى كفرهم وجاهليتهم، قبل أن يؤتيهم الله الكتاب. والكفر بعد الإيمان، والهدى بعد الضلال، طمس للوجوه والبصائر، وارتداد على الأدبار دونه كل ارتداد.
وسواء كان هذا هو المقصود أو ذاك.. فهو التهديد الرعيب العنيف; الذي يليق بطبيعة يهود الجاسية الغليظة; كما يليق بفعالهم اللئيمة الخبيثة!
وقد كان ممن ارتدع بهذا التهديد: فأسلم: أخرج كعب الأحبار : حدثنا أبي. حدثنا ابن أبي حاتم ابن نفيل . حدثنا عمرو بن واقد ، عن يونس بن جليس ، عن ، قال: كان أبي إدريس عائذ الله الخولاني أبو مسلم الخليلي معلم . وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فبعثه إليه ينظر: أهو هو؟ قال كعب : فركبت حتى أتيت كعب المدينة . فإذا تال يقرأ القرآن يقول: يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم، من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها ... فبادرت الماء فاغتسلت، وإني لأمس وجهي مخافة أن أطمس! ثم أسلمت .
والتعقيب على هذا التهديد:
وكان أمر الله مفعولا ..
فيه توكيد للتهديد، يناسب كذلك طبيعة اليهود ! ثم يجيء تعقيب يتضمن تهديدا آخر في الآخرة. تهديدا بعدم المغفرة لجريمة الشرك. مع فتح أبواب الرحمة الإلهية كلها لما دون ذلك من الذنوب: [ ص: 678 ] إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك - لمن يشاء - ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ..
وسياق الآية هكذا يتضمن اتهام اليهود بالشرك; ودعوتهم إلى الإيمان الخالص والتوحيد. ولا يذكر هنا القول أو الفعل الذي يعده عليهم شركا.. وقد ورد في مواضع أخرى تفصيل لهذا: فقد روى القرآن عنهم قولهم: " عزير ابن الله كقول النصارى المسيح ابن الله . وهو شرك لا شك فيه! كذلك روى عن هؤلاء وهؤلاء أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله .. وهم لم يكونوا يعبدون الأحبار والرهبان. إنما كانوا - فقط - يقرون لهم بحق التشريع. حق التحليل والتحريم. الحق الخاص بالله، والذي هو من خصائص الألوهية. ومن ثم اعتبرهم القرآن مشركين.. ولهذا الاعتبار قيمة خاصة في التصور الإسلامي الصحيح لحد الإسلام وشرط الإيمان كما سيجيء في سياق السورة بالتفصيل.
وعلى أية حال فاليهود على عهد الرسالة المحمدية كانت عقائدهم في الجزيرة حافلة بالوثنيات، منحرفة عن التوحيد. والتهديد هنا موجه إليهم بأن الله يغفر ما دون الشرك - لمن يشاء - ولكنه لا يتسامح في إثم الشرك العظيم. ولا مغفرة عنده لمن لقيه مشركا به; لم يرجع في الدنيا عن شركه.
إن الشرك انقطاع ما بين الله والعباد. فلا يبقى لهم معه أمل في مغفرة. إذا خرجوا من هذه الدنيا وهم مشركون. مقطوعو الصلة بالله رب العالمين. وما تشرك النفس بالله، وتبقى على هذا الشرك حتى تخرج من الدنيا - وأمامها دلائل التوحيد في صفحة الكون وفي هداية الرسل - ما تفعل النفس هذا وفيها عنصر من عناصر الخير والصلاحية. إنما تفعله وقد فسدت فسادا لا رجعة فيه! وتلفت فطرتها التي برأها الله عليها، وارتدت أسفل سافلين، وتهيأت بذاتها لحياة الجحيم!
أما ما وراء هذا الإثم المبين الواضح الظاهر، والظلم العظيم الوقح الجاهر.. أما ما وراء ذلك من الذنوب - والكبائر - فإن الله يغفره - لمن يشاء - فهو داخل في حدود المغفرة - بتوبة أو من غير توبة كما تقول بعض الروايات المأثورة الواردة - ما دام العبد يشعر بالله ويرجو مغفرته ويستيقن أنه قادر على أن يغفر له وأن عفوه لا يقصر عن ذنبه.. وهذا منتهى الأمد في تصوير الرحمة التي لا تنفد ولا تحد; والمغفرة التي لا يوصد لها باب; ولا يقف عليها بواب!
أخرج البخاري - كلاهما - عن ومسلم قتيبة ، عن جرير بن عبد الحميد ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن ، عن زيد بن وهب ، قال: أبي ذر أبوذر - جعلني الله فداك - قال: "يا تعال!" قال: فمشيت معه ساعة. فقال لي: "إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من أعطاه الله خيرا، فجعل يبثه عن يمينه وشماله وبين يديه ووراءه، وعمل فيه خيرا" . قال: فمشيت معه ساعة، فقال لي: "اجلس هاهنا" . فأجلسني في قاع حوله حجارة. فقال لي: "اجلس هاهنا حتى أرجع إليك" : قال: فانطلق في أبا ذر الحرة حتى لا أراه. فلبث عني، حتى إذا طال اللبث.. ثم إني سمعته وهو مقبل يقول: "وإن زنى وإن سرق" قال: فلما جاء لم أصبر حتى قلت: يا نبي الله - جعلني الله فداك - من تكلمه في جانب الحرة ؟ فإني سمعت أحدا يرجع إليك. قال: "ذلك جبريل ، عرض لي جانب الحرة " فقال: "بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة" . قلت: "أيا جبريل . وإن سرق وإن زنى؟" . قال: "نعم" . قلت: "وإن سرق وإن زنى؟" قال: "نعم. وإن شرب الخمر .. [ ص: 679 ] وأخرج خرجت ليلة من الليالي، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي وحده، وليس معه إنسان. قال: فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد. قال: فجعلت أمشي في ظل القمر. فالتفت فرآني. فقال: "من هذا؟" فقلت: - بإسناده - عن ابن أبي حاتم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : جابر بن عبد الله ما من نفس تموت، لا تشرك بالله شيئا، إلا حلت لها المغفرة، إن شاء الله عذبها، وإن شاء غفر لها.. إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ..
وأخرج - بإسناده - عن ابن أبي حاتم قال. كنا - أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - لا نشك في قاتل النفس، وآكل مال اليتيم، وقاذف المحصنات، وشاهد الزور. حتى نزلت: ابن عمر إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فأمسك أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الشهادة !
وروى - بإسناده - عن الطبراني ، عن عكرمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ابن عباس . قال الله عز وجل: من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي. ما لم يشرك بي شيئا
وفي هذا الحديث الأخير لمحة كاشفة.. فالمهم هو شعور القلب بالله على حقيقته - سبحانه - ومن وراء هذا الشعور الخير. والرجاء. والخوف. والحياء.. فإذا وقع الذنب، فمن ورائه هذه السمات تؤهل للتقوى وتؤهل للمغفرة.