ويمضي السياق في التعجيب من أمر أولئك الذين يزكون أنفسهم.. بينما هم يؤمنون بالباطل وبالأحكام التي لا تستند إلى شرع الله، وليس لها ضابط منه يعصمها من الطغيان: "الجبت والطاغوت" وبينما هم يشهدون للشرك والمشركين بأنهم أهدى من المؤمنين بكتاب الله ومنهجه وشريعته، ويحمل عليهم - بعد التعجيب من أمرهم، وذكر هذه المخازي عنهم - حملة عنيفة; ويرذلهم ترذيلا شديدا; ويظهر كامن طباعهم من الحسد والبخل; والأسباب الحقيقية التي تجعلهم يقفون هذا الموقف إلى جانب انحرافهم عن دين إبراهيم - الذي يفخرون بالانتساب إليه - وينهي هذه الحملة بتهديدهم بجهنم وكفى بجهنم سعيرا .
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا أم لهم نصيب من الملك؟ فإذا لا يؤتون الناس نقيرا أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله؟ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا ..
لقد كان الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، أولى الناس أن يتبعوا الكتاب; وأن يكفروا بالشرك الذي يعتنقه [ ص: 681 ] من لم يأتهم من الله هدى; وأن يحكموا كتاب الله في حياتهم، فلا يتبعوا الطاغوت - وهو كل شرع لم يأذن به الله، وكل حكم ليس له من شريعة الله سند - ولكن اليهود - الذين كانوا يزكون أنفسهم ، ويتباهون بأنهم أحباء الله - كانوا في الوقت ذاته يتبعون الباطل والشرك باتباعهم للكهانة وتركهم الكهان والأحبار يشرعون لهم ما لم يأذن به الله. وكانوا يؤمنون بالطاغوت; وهو هذا الحكم الذي يقوم على غير شريعة الله .. وهو طاغوت لما فيه من طغيان - بادعاء الإنسان إحدى خصائص الألوهية وهي الحاكمية - وبعدم انضباطه بحدود من شرع الله، تلزمه العدل والحق. فهو طغيان، وهو طاغوت; والمؤمنون به والمتبعون له، مشركون أو كافرون.. يعجب الله من أمرهم، وقد أوتوا نصيبا من الكتاب، فلم يلتزموا بما أوتوه من الكتاب!
ولقد كانوا يضيفون إلى الإيمان بالجبت والطاغوت، موقفهم في صف المشركين الكفار، ضد المؤمنين الذين آتاهم الله الكتاب أيضا:
ويقولون للذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ..
قال . حدثني ابن إسحاق محمد بن أبي محمد ، عن - أو عن عكرمة - عن سعيد بن جبير . قال: كان الذين حزبوا الأحزاب من ابن عباس قريش وغطفان وبني قريظة ، حيي بن أخطب ، وسلام بن الحقيق ، وأبو رافع ، والربيع بن الحقيق ، وأبو عامر ، ووحوح بن عامر ، وهودة بن قيس . فأما وحوح وأبو عامر وهودة ، فمن بني وائل ، وكان سائرهم من بني النضير .. فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود ، وأهل العلم بالكتاب الأول. فاسألوهم: أدينكم خير أم دين محمد ؟ فسألوهم. فقالوا: دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه. فأنزل الله - عز وجل - : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ... إلى قوله عز وجل: وآتيناهم ملكا عظيما .. وهذا لعن لهم، وإخبار بأنه لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة . لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين. وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم. وقد أجابوهم، وجاءوا معهم يوم الأحزاب حتى حفر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حول المدينة الخندق ، وكفى الله شرهم ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قويا عزيزا .
وكان عجيبا أن يقول اليهود : إن دين المشركين خير من دين محمد ومن معه، وإن المشركين أهدى سبيلا من الذين آمنوا بكتاب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولكن هذا ليس بالعجيب من اليهود .. إنه موقفهم دائما من الحق والباطل، ومن أهل الحق وأهل الباطل.. إنهم ذوو أطماع لا تنتهي، وذوو أهواء لا تعتدل، وذوو أحقاد لا تزول! وهم لا يجدون عند الحق وأهله عونا لهم في شيء من أطماعهم وأهوائهم وأحقادهم. إنما يجدون العون والنصرة - دائما - عند الباطل وأهله. ومن ثم يشهدون للباطل ضد الحق; ولأهل الباطل ضد أهل الحق! هذه حال دائمة، سببها كذلك قائم.. وكان طبيعيا منهم ومنطقيا أن يقولوا عن الذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا!
وهم يقولونها اليوم وغدا. إنهم يشوهون بوسائل الدعاية والإعلام التي في أيديهم كل حركة إسلامية ناجحة على ظهر الأرض; ويعينون عليها أهل الباطل لتشويهها وتحطيمها - بالضبط كما كانوا يعينون مشركي قريش ويستنصرون بهم في الوقت ذاته - لتشويه الحركة الإسلامية الأولى وتحطيمها.
ولكنهم أحيانا - لخبثهم ولتمرسهم بالحيل الماكرة ولملابسات العصر الحديث - قد لا يثنون ثناء مكشوفا على الباطل وأهله. بل يكتفون بتشويه الحق وأهله. ليعينوا الباطل على هدمه وسحقه. ذلك أن ثناءهم المكشوف [ ص: 682 ] - في هذا الزمان - أصبح متهما، وقد يثير الشبهات حول حلفائهم المستورين، الذين يعملون لحسابهم، في سحق الحركات الإسلامية في كل مكان..
بل لقد يبلغ بهم المكر والحذق أحيانا، أن يتظاهروا بعداوة وحرب حلفائهم، الذين يسحقون لهم الحق وأهله. ويتظاهروا كذلك بمعركة كاذبة جوفاء من الكلام. ليبعدوا الشبهة تماما عن أخلص حلفائهم، الذين يحققون لهم أهدافهم البعيدة!
ولكنهم لا يكفون أبدا عن تشويه الإسلام وأهله.. لأن حقدهم على الإسلام، وعلى كل شبح من بعيد لأي بعث إسلامي، أضخم من أن يداروه.. ولو للخداع والتمويه!
إنها جبلة واحدة، وخطة واحدة، وغاية واحدة.. هي التي من أجلها يجبههم الله باللعنة والطرد، وفقدان النصير. والذي يفقد نصرة الله فما له من ناصر وما له من معين ولو كان أهل الأرض كلهم له ناصر وكلهم له معين:
أولئك الذين لعنهم الله. ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ..
ولقد يهولنا اليوم أن نجد دول الغرب كلها نصيرا لليهود . فنسأل: وأين وعد الله بأنه لعنهم، وأن من يلعن الله فلن تجد له نصيرا؟
ولكن الناصر الحقيقي ليس هو الناس. ليس هو الدول. ولو كانت تملك القنابل الأيدروجينية والصواريخ. إنما الناصر الحق هو الله. القاهر فوق عباده: ومن هؤلاء العباد من يملكون القنابل الأيدروجينية والصواريخ! والله ناصر من ينصره.. ولينصرن الله من ينصره والله معين من يؤمن به حق الإيمان، ويتبع منهجه حق الاتباع ويتحاكم إلى منهجه في رضى وفي تسليم..
ولقد كان الله - سبحانه - يخاطب بهذا الكلام أمة مؤمنة به، متبعة لمنهجه، محتكمة إلى شريعته. وكان يهون من شأن عدوها - اليهود - وناصريهم. وكان يعد المسلمين النصر عليهم لأنهم - اليهود - لا نصير لهم. وقد حقق الله لهم وعده. وعده الذي لا يناله إلا المؤمنون حقا. والذي لا يتحقق إلا على أيدي العصبة المؤمنة حين تقوم.
فلا يهولننا ما نلقاه من نصرة الملحدين والمشركين والصليبيين لليهود . فهم في كل زمان ينصرونهم على الإسلام والمسلمين.. فليست هذه هي النصرة.. ولكن كذلك لا يخدعننا هذا. فإنما يتحقق هذا الأمر للمسلمين! يوم يكونون مسلمين! وليحاول المسلمون أن يجربوا - مرة واحدة - أن يكونوا مسلمين. ثم يروا بأعينهم إن كان يبقى لليهود نصير. أو أن ينفعهم هذا النصير!
وبعد التعجيب من أمرهم وموقفهم وقولهم; وإعلان اللعنة عليهم والخذلان.. يأخذ في وغيظهم من أن يمن الله عليهم هذه المنة.. منة الدين والنصر والتمكين. وحسدهم لهم على ما أعطاهم الله من فضله. وهم لم يعطوهم من عندهم شيئا! ويكشف في الوقت ذاته عن كزازة طبيعتهم; واستكثار أي عطاء يناله غيرهم; مع أن الله قد أفاض عليهم وعلى آبائهم، فلم يعلمهم هذا الفيض السماحة; ولم يمنعهم من الحسد والكنود: [ ص: 683 ] استنكار موقفهم من الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين; أم لهم نصيب من الملك؟ فإذا لا يؤتون الناس نقيرا أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة، وآتيناهم ملكا عظيما ..
يا عجبا! إنهم لا يطيقون أن ينعم الله على عبد من عباده بشيء من عنده.. فهل هم شركاؤه - سبحانه! - هل لهم نصيب في ملكه، الذي يمنح منه ويفيض؟ لو كان لهم نصيب لضنوا - بكزازتهم وشحهم - أن يعطوا الناس نقيرا.. والنقير: النقرة تكون في ظهر النواة وهذه لا تسمح كزازة يهود وأثرتها البغيضة أن تعطيها للناس، لو كان لها في الملك نصيب! والحمد لله أن ليس لها في الملك نصيب.. وإلا لهلك الناس جميعا وهم لا يعطون حتى النقير!!!
أم لعله الحسد.. حسد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، على ما آتاهم الله من فضله.. من هذا الدين الذي أنشأهم نشأة أخرى ووهب لهم ميلادا جديدا، وجعل لهم وجودا إنسانيا متميزا; ووهبهم النور والثقة والطمأنينة واليقين; كما وهبهم النظافة والطهر، مع العز والتمكين؟
وإنه فعلا للحسد من يهود . مع تفويت أطماعها في السيادة الأدبية والاقتصادية على العرب الجاهلين المتفرقين المتخاصمين.. يوم أن لم يكن لهم دين..
ولكن لماذا من النبوة والتمكين في الأرض؟ وهم غارقون في فضل الله من عهد يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله إبراهيم .. الذي آتاه الله وآله الكتاب والحكمة - وهي النبوة - وآتاهم الملك كذلك والسيادة. وهم لم يرعوا الفضل ولم يحتفظوا بالنعمة، ولم يصونوا العهد القديم، بل كان منهم فريق من غير المؤمنين. ومن يؤت هذا الفضل كله لا يليق أن يكون منهم جاحدون كافرون!
فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به، ومنهم من صد عنه .
إنه لمن ألأم الحسد: أن يحسد ذو النعمة الموهوب! لقد يحسد المحروم ويكون الحسد منه رذيلة! أما أن يحسد الواجد المغمور بالنعمة، فهذا هو الشر الأصيل العميق! شر يهود ! المتميز الفريد! ومن ثم يكون التهديد بالسعير، هو الجزاء المقابل لهذا الشر النكير:
وكفى بجهنم سعيرا ..
وعندما يبلغ السياق هذا المقطع من ذكر الإيمان والصدود عن الإيمان في آل إبراهيم ، يعقب بالقاعدة الشاملة للجزاء. جزاء المكذبين، وجزاء المؤمنين.. هؤلاء وهؤلاء أجمعين.. في كل دين وفي كل حين; ويعرض هذا الجزاء في صورة مشهد من مشاهد القيامة العنيفة الرعيبة:
إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا، كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب. إن الله كان عزيزا حكيما والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبدا، لهم فيها أزواج مطهرة، وندخلهم ظلا ظليلا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب .
إنه مشهد لا يكاد ينتهي. مشهد شاخص متكرر. يشخص له الخيال، ولا ينصرف عنه! إنه الهول. وللهول جاذبية آسرة قاهرة! والسياق يرسم ذلك المشهد ويكرره بلفظ واحد.. "كلما" .. ويرسمه كذلك عنيفا مفزعا بشطر جملة.. كلما نضجت جلودهم .. ويرسمه عجيبا خارقا للمألوف بتكملة الجملة.. بدلناهم [ ص: 684 ] جلودا غيرها
.. ويجمل الهول الرهيب المفزع العنيف كله في جملة شرطية واحدة لا تزيد! ذلك جزاء الكفر - وقد تهيأت أسباب الإيمان - وهو مقصود. وهو جزاء وفاق:
ليذوقوا العذاب ..
ذلك، أن الله قادر على الجزاء. حكيم في توقيعه:
إن الله كان عزيزا حكيما ..
وفي مقابل هذا السعير المتأجج. وفي مقابل الجلود الناضجة المشوية المعذبة.. كلما نضجت بدلت. ليعود الاحتراق من جديد. ويعود الألم من جديد. في مقابل هذا المشهد المكروب الملهوف.. نجد والذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات ندية: تجري من تحتها الأنهار :
ونجد في المشهد ثباتا وخلودا مطمئنا أكيدا: خالدين فيها أبدا ونجد في الجنات والخلد الدائم أزواجا مطهرة: لهم فيها أزواج مطهرة .. ونجد روح الظلال الندية; يرف على مشهد النعيم: وندخلهم ظلا ظليلا ..
تقابل كامل في الجزاء. وفي المشاهد. وفي الصور. وفي الإيقاع.. على طريقة القرآن في "مشاهد القيامة" ذات الإيحاء القوي النافذ العميق .